وقول النّبيّ صلىاللهعليهوسلم للرّماة : [لا تبرحوا من مكانكم](١) ، وكان صلىاللهعليهوسلم قد جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة ، وأقام الرّماة فيما يلي خيل المشركين ، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير الأنصاريّ ، وقال لهم : [احموا ظهورنا ، وإن رأيتمونا قد عشنا فلا تشركونا ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا]. وأقبل المشركون وأخذوا في القتال ، فجعل الرّماة يترشّقون خيل المشركين بالنّبل ، والمسلمون يضربونهم بالسّيف ؛ حتّى ولّوا هاربين وانكشفوا مهزومين ، فذلك قوله (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) أي تقتلونهم قتلا ذريعا شديدا في أوّل الحرب بأمره وعلمه (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) أي إلى أن فشلتم جعلوا (حتى) بمعنى (إلى) فحينئذ لا جواب له ، وقيل (حتى) بمعنى : فلمّا ، وفي الكلام تقديم وتأخير.
قالوا : وفي قوله (وَتَنازَعْتُمْ) مقحمة تقديره : حتّى اذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم ؛ أي جبنتم وضعفتم. وكان (تَنازَعْتُمْ) أنّ الرّماة لمّا انهزم المشركون وقع المسلمون في الغنائم ؛ قالوا : قد انهزم القوم وأمنّا ، وقال بعضهم : لا تجاوزوا أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير من الصّحابة دون العشرة ؛ قيل : ثمانية ، وانطلق الباقون ينتهبون ، فلمّا نظر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى ذلك ؛ حملوا على الرّماة من قبل ذلك الشّعب في مائتين وخمسين فارسا من المشركين ، وكان خالد يومئذ مشركا ؛ فقتل عبد الله بن جبير ومن بقي معه من الرّماة ، وأقبلوا على المسلمين من خلفهم ، وتفرّق المسلمون وانتقضت صفوفهم واختلطوا ، وحمل عليهم المشركون حملة رجل واحد ، وصار المسلمون من بين قتيل وجريح ومنهزم ومدهوش (٢) ، ونادى إبليس : ألا إنّ محمّدا قد قتل ، فذلك قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي لمّا اختلفتم في الأمر الذي أمركم رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الثبات على المركز ، وعصيتم الرسول من بعد ما أراكم ما تحبّون من النّصر على عدوّكم والظفر والغنيمة. قال بعض المفسّرين : جواب (إِذا فَشِلْتُمْ) ها هنا مقدّر ، كأنه قال : إذا فشلتم وتنازعتم امتحنتم بما رأيتم من القتل والبلاء.
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٣٠٩ و٣٦٥٦).
(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٦٣٥٨).