هذا الرّجل بلادنا بلاء علينا ؛ عادتنا العرب فرمونا عن قوس واحدة ؛ وانقطعت عنّا السّبيل حتّى ضاعت العيال وجهدت الأنفس. فقال كعب ابن الأشرف : أما والله لقد أخبرتك أنّ الأمر سيصير إلى هذا. فقال أبو نائلة : إنّ معي أصحابا أردنا أن تبيعنا من طعامك ونرهنك ونوثق لك سلاحا ، وقد علمت حاجتنا اليوم إلى السّلاح ، فقال : هاتوا سلاحكم ، وأراد أبو نائلة يذكر السّلاح حتّى لا ينكر السّلاح إذا رآه ، فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره ، فأقبلوا إليه حتّى انتهوا إليه ، وكان كعب حديث عهد بعرس.
فبادأه أبو نائلة فوثب في ملحفه ؛ فأخذت امرأته بناصيته وقالت : إنّك رجل محارب وصاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه السّاعة ، فقال : إنّ هؤلاء وجدوني نائما ما أيقظوني ؛ وإنّه أبو نائلة أخي ، قالت : فكلّمهم من فوق الحصن ، فأبى عليها ، فنزل إليهم فتحدّث معهم ساعة ثمّ قالوا له : يا ابن الأشرف ؛ هل لك أن نتماشى ونتحدّث ساعة؟ فمشى معه ساعة ، ثمّ إنّ أبا نائلة جعل يده على رأس كعب ثمّ شمّها وقال : ما شممت طيب عرس قطّ مثل هذا! قال كعب : إنّه طيب أمّ فلان ؛ يعني امرأته.
ثمّ مشى ساعة ، فعاد أبو نائلة لمثلها حتّى اطمأنّ ثمّ مشى ساعة ، ثمّ عاد بمثلها ، ثمّ أخذ بفود رأسه حتّى استمكن ، ثمّ قال لأصحابه : اضربوا عدوّ الله ؛ فاختلفت عليه أسيافنا فلم تغن شيئا ، قال محمّد بن مسلمة فركزت مغولا في ثنّته ، ثمّ تحاملت عليه حتّى بلغت عانته ، فصاح صيحة لم يبق من حولها حصن إلّا وقد أوقد نارا ، فوقع عدوّ الله على الأرض ، وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه ؛ أصابه بعض أسيافنا ، فنزفه الدّم وأبطأ علينا ؛ فوقفنا له ساعة ، ثمّ احتملناه وجئنا به إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم آخر اللّيل وهو قائم يصلّي ، فسلّمنا عليه فخرج إلينا ؛ فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه ، وتفل على جرح صاحبنا فبرأ ، ورجعنا إلى أهلنا ، فأصبحنا وقد خافت اليهود لوقعتنا بعدوّ الله (١) ، فقال صلىاللهعليهوسلم : [من ظفرتم به من رجل يهود فاقتلوه].
__________________
(١) السيرة النبوية لابن هشام : ج ٣ ص ٥٩ ـ ٦٠.