دخلت به وحدثته وإذا اشتغلت عنه سبح في بطنها وهي تسمع تسبيحه (١) ، ومحل (فِي الْمَهْدِ) نصب على الحال ، قوله (وَكَهْلاً) عطف عليه ، أي يكلمهم في كبره بعد نزوله من السماء ، والمعنى : أنه يكلمهم في هاتين الحالتين بكلام الأنبياء من الحكمة والعبرة من غير تفاوت بين حال الطفولة والكهولة التي يكمل فيها العقل ويستنبأ الأنبياء ليكون على طرفي كلامه معجزة ، لأنه لا يشبه كلام سائر الناس ، وتكلمه معهم دليل على حدوثه لحدوث الأصوات والحروف (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) [٤٦] أي حال كونه مع النبيين في الجنة ، قيل : هذه أحوال أربعة مقدرة ، يبشر الله مريم بها أنه موصوف بهذه الصفات ولم يجمع هذه المجموعة فيمن سواه من الناس (٢).
(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧))
(قالَتْ رَبِّ) أي قالت مريم يا سيدي (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي) أي لم يصبني (بَشَرٌ) وهو كناية عن الجماع (قالَ) أي الله بواسطة جبرائيل (كَذلِكِ) أي كما قلت أنه لم يمسسك بشر (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً) أي إذا حكم بخلق أمر وحدوثه (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [٤٧] أي يحدث في أسرع وقت ، فنفخ جبرائيل في نفسها فعلقت بذلك.
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨))
قوله (وَيُعَلِّمُهُ) بالياء والنون (٣) عطف على (يُبَشِّرُكِ) أو كلام مستأنف ، أي ويعلمه الله (الْكِتابَ) أي الكتابة ، يعني الخط بالإلهام والوحي (وَالْحِكْمَةَ) أي الفقه والمعرفة (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [٤٨] فيحفظهما عن (٤) ظهر القلب.
(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩))
(وَرَسُولاً) أي ويجعله (٥) مرسلا (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أو يكلم الناس حال كونه رسولا إليهم (٦) ومحل قوله (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) نصب بنزع الخافض ، أي بأني قد جئتكم (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بعلامة منه تعالى تدل على صدقي ، والمراد من الآية الجنس ، لأنه أتى بآيات كثيرة ، ومحل (أَنِّي أَخْلُقُ) بفتح الهمزة نصب بدل من «إني قد جئتكم» أو جر بدل من «آية» أو رفع على هي أني أخلق (لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) وقرئ بكسر «إن» (٧) على الاستئناف ، أي قال عيسى بعد أن أوحي إليه في حال الكبر : قد جئتكم بآية من ربكم لبيان الآية الدالة على صدقه أني أخلق لكم ، أي أشكل شكلا وأقدره من الطين (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي كصورته (فَأَنْفُخُ فِيهِ) أي في ذلك الشكل (فَيَكُونُ طَيْراً) جمعا وطائرا مفردا (٨)(بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره ومشيته ، قيل : لم يخلق سوى الخفاش ، لأنهم طلبوه منه لكونه أعجب الخلق ، ومن عجائبه أنه لحم ودم ، يطير بلا ريش ، ويضحك كالإنسان ، ويحيض كالمرأة ويلد كما يلد الحيوان ، ولا يبيض (٩) كسائر الطيور ولا يبصر (١٠) في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين
__________________
(١) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.
(٢) لعله اختصره من الكشاف ، ١ / ١٧٥.
(٣) «ويعلمه» : قرأ بالياء نافع وعاصم وأبو جعفر ويعقوب ، والباقون بالنون. البدور الزاهرة ، ٦٣.
(٤) عن ، ب م : علي ، س.
(٥) أي ويجعله ، ب م : أي يجعله ، س.
(٦) إليهم ، ب م : عليهم ، س.
(٧) «أني أخلق» : قرأ المدنيان بكسر «إني» ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٦٣.
(٨) «طيرا» : قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب بألف بعد الطاء وهمزة مكسورة بعده ، والباقون بغير ألف وبياء ساكنة مكان الهمزة. البدور الزاهرة ، ٦٤.
(٩) يبيض ، ب م : تبيض ، س ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٢٦٩.
(١٠) ولا يبصر ، ب س : ولا تبصر ، م.