ومن أغلق بابه فهو آمن ، فانقادت قريش لأمر الله ورفعوا أيديهم وأسلموا (١) ، فقال تعالى (فَلا تَخْشَوْهُمْ) أي لا تخافوا صولة الكفار بعد إظهار الدين فأنا معكم وناصركم (وَاخْشَوْنِ) في ترك أمري ولا تخشوا غيري (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي أمر دينكم من الحلال والحرام وشرائع الإسلام أو ظهور دينكم ونصرته (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) باكمال دينكم الإسلام وبدخول مكة آمنين ظاهرين ومنع المشركين من دخول الحرم بعد العام ، فلا نعمة أتم من نعمة الإسلام ، وهدم مناسك الجاهلية ومنازلها (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي أخترت لكم دين الإسلام من بين الأديان وهو المرضي وحده عندي ، ومن يبتغ غيره دينا فلن يقبل منه ، ونصب (دِيناً) على الحال من (الْإِسْلامَ) ، قال عليهالسلام حاكيا عن الله تعالى : «هذا دين إرتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه» (٢) ، قيل : «عاش النبي عليهالسلام بعد نزول هذه الآية إحدى وثمانين ليلة ، وتوفي يوم الإثنين بعد ما زاغت الشمس لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة» (٣) ، قوله (فَمَنِ اضْطُرَّ) شرط يتعلق بما تقدم من المحرمات ، أي فمن احتاج بالضرورة إلى أكل ما حرم من المحرمات (فِي مَخْمَصَةٍ) أي في مجاعة (غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) نصبه حال ، أي حال كونه غير مائل إلى المعصية ، وهي أكله فوق الشبع أو حال كونه غير متعمد للمعصية في مقصده فيأكل منه (٤) مقدار ما يأمن الموت ، وهذا قول الأئمة من الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما ، والأول قول أهل المدينة ، وجواب الشرط (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٣] فيما أكل ، ورخص له في الأكل عند الاضطرار.
(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))
قوله (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) نزل حين سأل عدي بن حاتم الطائي وأصحابه ، وقالوا : يا رسول الله! إنا قوم نصيد (٥) بالكلاب والبزاة ، فما يحل لنا من المطاعم والصيود؟ (٦) ، وذلك السؤال عند نزول آية تحريم المحرمات ، فقال تعالى (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) أي الذبائح على اسم الله تعالى أو كل ما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنة للتحريم (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) أي وأحل (٧) لكم صيد الذي علمتم من الجوارح بحذف المضاف ، أي الكواسب من الكلاب والطيور (مُكَلِّبِينَ) نصب على الحال ، وفائدة الحال بعد ما قال «علمتم» أن يكون معلم الجوارح نحريرا في علمه مؤدبا به ، أي حال كونكم مرسلين الكلاب على الصيود ، من التكليب وهو تأديب الكلاب للاصطياد ، وخصت الكلاب لكثرتها بالذكر أو المراد من الكلب جميع السباع (٨) ، لأن العرب تسمي كل السبع كلبا (تُعَلِّمُونَهُنَّ) وهو أيضا حال من ال (مُكَلِّبِينَ) ، أي تؤدبون الكلاب في طلب الصيد (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) على لسان رسوله فلا بأس بأكل صيد الكلب (٩) إذا كان معلما (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) أي كلوا ما حبسنه (١٠) لكم ولم يأكلن ، قيل : المعلمة هي التي إذا أشليت استشلت وإذا زجرت انزجرت وإذا أخذت الصيد لم تأكله (١١) فاذا وجد ذلك ثلث مرات فهي معلمة (١٢) ، قال عليهالسلام : «إذا أرسلت كلبك
__________________
(١) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ٤١٥ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ١٥٩ ـ ١٦٠.
(٢) انظر البغوي ، ٢ / ٢٠٨. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.
(٣) أخذه المفسر عن البغوي ، ٢ / ٢٠٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٤١٦.
(٤) منه ، ب م : منها ، س.
(٥) نصيد ، س : نتصيد ، ب م ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ١٦١ ؛ والبغوي ، ٢ / ٢٠٩.
(٦) عن سعيد ابن جبير ، انظر الواحدي ، ١٦١ ـ ١٦٢ ؛ والبغوي ، ٢ / ٢٠٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٣١٧.
(٧) أي وأحل ، ب س : أي أحل ، م.
(٨) السباع ، ب م : الأسباع ، س.
(٩) فلا بأس بأكل صيد الكلب ، س : فلا بأس بصيد الكلب ، ب م.
(١٠) أي كلوا ما حبسنه ، س : أي حبسنه ، ب م.
(١١) تأكله ، م : تأكل ، ب س.
(١٢) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٢ / ٢١٠.