وجب عليه من تبليغ الرسالة وتهديد بقيام الحجة عليهم ولزوم الطاعة بهم ، فلم يبق لهم عذر في التفريط (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) أي تظهرون من الأعمال والأقوال (وَما تَكْتُمُونَ) [٩٩] أي تسرون من السرائر والأحوال ، فليس على الرسول طلب سرائركم ودرك نياتكم ولم يؤمر به ، لأن الله يعلم ذلك كله.
(قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))
قوله (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) نزل في حجاج اليمامة من المشركين حين أراد المسلمون أن يأخذوا أموالهم ويوقعوا بهم (١) ، فنهى الله عن ذلك وإن كانوا أهل الشرك ، منهم شريح بن ضبيعة وكان كثير المال (٢) ، فقال تعالى لا يستوي المال الحرام والمال الحلال ، فان ماله حرام لا توثروه (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) وهو مال شريح ، فان الفضل المتوهم في الخبيث الكثير لا يوازي فضل الطيب القليل ، فلا تستحلوا ما حرم عليكم (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي يا أهل العقول المميزين بين الحلال والحرام (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [١٠٠] أي لكي تأمنوا من عذابه ، قيل : «صدقة من الحرام لا تصعد إلى الله ولا توضع في خزانته ، وصدقة من الحلال تقع في يد الرحمن» (٣) ، يعني يقبلها بالرضاء ، وقيل : «مثقال حبة من صدقة الحلال أرجح عند الله من جبال الدنيا من الحرام» (٤) ، والحكم في الآية عام في حلال المال وحرامه وفي صالح العمل وطالحه وفي نافع العلم وضاره ، وفي صحيح المذهب وفاسده وفي جيد الناس ورديهم.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١))
قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) لا ينصرف كحمراء ، جمع شيء ، ووزنه فعلاء وأصله شيئاء بهمزتين بينهما ألف عند سيبويه ثم نقلت الأولى قبل الفاء ، فصارت أشياء على وزن أفعاء ، وعند الأخفش أصله أشئياء على وزن أفعلاء ، جمع شيء ، ثم خفف وجمع ، فوزنه أفعاء بحذف لام الكلمة عنده ، نزل حين أكثر المسلمون السؤال على النبي عليهالسلام فغضب وقال : لا تسألوني عن شيء إلا أخبركم ، فقال رجل : يا رسول الله من أبي؟ فقال : حذافة ، يعني رجلا غير أبيه ، فقال عمر بن الخطاب : «يا رسول الله رضينا بالله دينا وبك نبيا» (٥) ، فقال تعالى تأديبا لهم لا تسألوا نبيكم عن أشياء (إِنْ تُبْدَ) أي تظهر بالجواب (لَكُمْ) هذه الأشياء التي تسألونها (تَسُؤْكُمْ) أي تضركم وتحزنكم وتندموا على السؤال عنها ، قيل : سأل عكاشة يا رسول الله الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه حتى أعاد سؤاله ثلاث مرات ، فقال عليهالسلام : «ويحك لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم ، فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فاذا أمرتكم بأمر فخذوه وإذا نهيتكم عن شيئ فاجتنبوه» (٦)(وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها) أي عن التكاليف الصعبة (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) أي في زمان الوحي ونبيكم بين أظهركم (تُبْدَ) أي تظهر (لَكُمْ) تلك التكاليف التي تسؤكم فتؤمروا بتحملها فتعجزوا عن القيام بها ، فتعرضون (٧) أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها ، ومحل (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) إلى قوله (تُبْدَ لَكُمْ) أعني الجملتين الشرطيتين جر صفة «أشياء» ، والمعنى : أنكم اسكتوا عن السؤال حتى تؤمروا (عَفَا اللهُ عَنْها) أي عن مسألتكم السالفة فلا تعودوا إلى مثلها (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [١٠١] أي متجاوز عن ذنوبكم لم يعجل عليكم بالعقوبة لسوء فعلكم.
__________________
(١) ويوقعوا بهم ، ب س : ويواقعوا فيهم ، م.
(٢) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٦١.
(٣) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٦١.
(٤) عن الضحاك ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٦١.
(٥) عن عكرمة ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٦١ ؛ والبغوي ، ٢ / ٣١٠.
(٦) عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما ، انظر السمرقندي ، ١ / ٤٦١.
(٧) فتعرضون ، ب س : فيعرضون ، م.