(قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢))
ثم هددهم وحذرهم بما مضى على من قبلهم فقال (قَدْ سَأَلَها) ولم يقل سأل عنها ، لأن الضمير لم يرجع إلى ال «أشياء» حتى يجب تعديته ب «عن» ، بل يرجع إلى المسألة ، أي قد سأل هذه المسألة أنبياءهم (قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها) أي صاروا بسببها أو بأحكامها (كافِرِينَ) [١٠٢] فان بني إسرائيل سألوا (١) أنبياءهم كموسى وعيسى عن أشياء ، فأمروا بها فتركوها ولم يعملوا بها فهلكوا بسخط الله تعالى.
(ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣))
قوله (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) «من» زائدة لتأكيد النفي ، نزل في بيان أن المحل والمحرم بالشريعة هو الله وليس لغيره أن يسن شريعة بها يحل ويحرم كعمر بن لحي أخو بني كعب غير شريعة إسمعيل عليهالسلام ، فقال : إن الله أمرني بها افتراء على الله الكذب ، أي لم يجعل الله حراما من بحيرة ، وهي ناقة ولدت خمسة أبطن آخرها ذكر فبحرت ، أي شق أذنها واسعا مشبها بالبحر وحرم ركوبها وتركت لترعى في المرعى ، فاذا ماتت اشترك فيها الرجال والنساء (٢)(وَلا سائِبَةٍ) أي ولم يجعل في الحيوانات حراما من سائبة ، وهي من الأنعام التي خامس ولدها أنثى ، فبحروا أذنها وتركت مع أمها وحرمت منافعها على الرجال والنساء ، فاذا ماتت اشتركوا فيها أو السائبة منها ما نذروا تسييبها لآلهتهم إذا برؤا من مرضهم أو جاؤا من سفرهم وتسلموها إلى خدامهم ببيت آلهتهم ، وكان صوفها وأولادها للرجال دون النساء (وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) أي ولم يجعل من الحيوانات حراما وصيلة بأن يقال إنه وصل (٣) أخاه إذا ولد ذكر مع أنثى فحرما جميعا فيكون ذلك للأصنام في زعمهم ، فاذا ماتا (٤) تشارك الرجال والنساء فيهما ، ولم يجعل أيضا من الحيوانات حاميا وهو الفحل الذي إذا ركب ولد ولده أو نتج منه عشرة أبطن ، قالوا قد حمى ظهره فيهمل ولا يحمل ولا يركب ولا يمنع من الماء والمرعى ، وإذا مات أحله الرجال والنساء ، وكانوا يقولون كل ذلك من أحكام الله ، فقال الله تعالى ردا عليهم ما حرم الله هذه الأشياء (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وأنبيائه (يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [١٠٣] أن الله هو المحل والمحرم ، فلا ينسبون (٥) التحليل والتحريم إليه لفرط جهلهم كالبهائم.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))
ثم أخبر عن عدم عقلهم واتباعهم بهواهم بقوله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) أي إلى كتابه (وَإِلَى الرَّسُولِ) أي إلى سنة رسوله (قالُوا حَسْبُنا) أي كافينا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي دينهم وسنتهم ، فقال تعالى (أَوَلَوْ كانَ) أي أحسبهم ذلك ولو كان (آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) من الهدى بالحجة (وَلا يَهْتَدُونَ) [١٠٤] طريق الحق ، ففيه نهي عن التقليد بالجاهل وأمر بالاقتداء بالعالم المهتدي الذي يعرف اهتداءه بالحجة.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))
قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) بالنصب مفعول (عَلَيْكُمْ) ، وهو اسم فعل بمعنى الزموا صلاح أنفسكم ، نزل في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا رد على الآمر والناهي ولم يقبل عند الفسقة والفجرة (٦) ، قال ابن مسعود : «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فان رد عليكم فعليكم
__________________
(١) سألوا ، ب س : تسألوا ، م.
(٢) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٢ / ٣١٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٤٦٢.
(٣) إنه وصل ، ب م : إن وصل ، س.
(٤) ماتا ، ب م : مات ، س.
(٥) فلا ينسبون ، م : لينسبوا ، ب س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٢ / ٥٠.
(٦) اختصره من البغوي ، ٢ / ٣١٤.