(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))
ثم قال تعالى (ذلِكَ) أي الذي حكمنا به من رد اليمين على الخائنين لكذبهما فيه (١) ، يعني عدم سماع الشهادة منهما ورد اليمين إلى المدعي بعد إيمان الآخرين (أَدْنى) أي أقرب إلى (أَنْ يَأْتُوا) أي الأوصياء أو الشهاداء على نحو تلك الحادثة (بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أي على وجه (٢) الشهادة ، يعني ذلك الحكم أقرب إلى أن يقيم الشهود الشهادة كما كانت الواقعة في الواقع بلا خيانة إذا علموا (٣) ذلك ، والمراد من ضمير الجمع تميم الداري وصاحبه عدي بن يزيد وكل من قام مقامها من الخصوم ، ولذا جمع (أَنْ يَأْتُوا) وقوله (أَوْ يَخافُوا) أي أقرب إلى أن يحذروا من (أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) أي أيمان الأوصياء (بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) إلى المدعي فيحلف على خيانتهم وكذبهم فيفتضحون ويغرمون ، فلا يحلفون كاذبين بعد علمهم بذلك ، فقام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة من أقرباء الميت وحلفا بعد صلاة العصر فدفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت فانتقلت اليمين إلى أوليائه بعد ظهور الخيانة فيهما بحكم هذه الآية ، وهو قول الشافعي ، وغرم تميم وعدي ما أخذاه من ثمنه للمشتري ، وكان تميم الداري بعد ما أسلم يقول : صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأستغفر الله وأتوب إليه ، وأبو حنيفة لا يرى رد اليمين إلى المدعي ، فيحمل الآية على النسخ (٤) ، ثم قال (وَاتَّقُوا اللهَ) من الأيمان الكاذبة والخيانة في الأمانة (وَاسْمَعُوا) المواعظ سماع إجابة وقبول (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [١٠٨] أي لا يرشدهم إلى الحق باختيارهم الفسق والخيانة.
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩))
قوله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) نصب بمضمر ، أي اذكر يوم القيامة الذي يجمع فيه الأنبياء (فَيَقُولُ) الله لهم توبيخا لمكذبيهم (٥)(ما ذا أُجِبْتُمْ) أي أي إجابة أحبتم من قومكم في التوحيد (قالُوا) أي الرسل يقولون ثمه بعد علمهم أن السؤال لتوبيخ الكفار (٦)(لا عِلْمَ لَنا) فنفوا العلم عنهم وهم قد علموا بما أجيبوا إثباتا للحجة على المكذبين أو من شدة السؤال وهول القيامة (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [١٠٩] أي ما كان وما لم يكن ، قيل : هذا عند زفرة جهنم فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل عند ذلك إلا قال نفسي نفسي ، فعند ذلك قالوا : لا علم لنا (٧) ، وقيل : ذلك عند أول البعث ، ثم يشهدون بتبليغ الرسالة بعد ذلك (٨).
(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠))
قوله (إِذْ قالَ اللهُ) بدل من (يَوْمَ يَجْمَعُ) أو نصب بمضمر ، أي يوبخ الكفار بسؤال الرسل وقت قول الله (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي) بالنبوة (عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) باصطفائها على نساء العالمين بأن وهبتك لها بلا أب دونهن (إِذْ أَيَّدْتُكَ) أي قويتك وأعنتك (بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي بجبرائيل (تُكَلِّمُ النَّاسَ) حال من المفعول في «أيدك» (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) أي بعد ثلاثين سنة وذلك حين أوحي إليه بالرسالة ، يعني تكلمهم بالكلام المعجز في هاتين الحالتين من غير تفاوت كلامك في حين الطفولة وحين الكحولة الذي هو وقت كمال العقل ، قيل : مكث
__________________
(١) لكذبهما فيه ، ب س : ـ م.
(٢) أي علي وجه ، س : أي وجه ، ب م.
(٣) علموا ، ب س : عملوا ، م.
(٤) انظر القرطبي ، ٦ / ٣٥٦.
(٥) لمكذبيهم ، ب م : لمكذبهم ، س.
(٦) أي الرسل يقولون ثمه بعد علمهم أن السؤال لتوبيخ الكفار ، ب س : أي الرسل بعد علمهم أن السؤال لتوبيخ الكفار يقولون ثمه ، م.
(٧) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ١ / ٤٦٦.
(٨) نقله عن السمرقندي ، ١ / ٤٦٦.