في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة للّه تعالى: ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث، ولم يقنعوا بأن يقولوا: صفة فعل، حتى قالوا: صفة ذات.
ثم لما أثبتوا أنها صفات قالوا: لا نحملها على توجيه اللغة مثل يد على نعمة وقدرة، ولا مجيء وإتيان على معنى برّ ولطف، ولا ساق على شدة، بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن، فإن صرف صارف حمل على المجاز، ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون: نحن أهل السّنة، وكلامهم صريح في التشبيه.
وقد تبعهم خلق من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع فقلت لهم: يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه اللّه تعالى يقول وهو تحت السياط: كيف أقول ما لم يقل (١). فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه؛ ثم قلتم في الأحاديث (تحمل على ظاهرها) فظاهر القدم الجارحة، فإنه لما قيل في عيسى عليه الصلاة والسلام (روح اللّه) اعتقدت النصارى لعنهم اللّه تعالى أن للّه سبحانه وتعالى صفة هي روح ولجت في مريم.
ومن قال استوى بذاته المقدسة فقد أجراه سبحانه وتعالى مجرى الحسيات، وينبغي أن لا يهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل فإنا به عرفنا اللّه تعالى وحكمنا له بالقدم، فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت لما أنكر أحد عليهم، إنما حملكم إياها على الظاهر قبيح (٢).
__________________
(١) ولما سئل الإمام أحمد عن أحاديث النزول والرؤية ووضع القدم ونحوها قال: «نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى»، وقال أيضا يوم سألوه عن الاستواء: استوى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف» على ما ذكره الخلال في السنة بسنده إلى حنبل عن عمه الإمام أحمد، وهذا تفويض وتنزيه كما هو مذهب السلف، وربما أوّل في بعض المواضع كما حكى حنبل أيضا عن الإمام أحمد أنه سمعه يقول: احتجوا على يوم المناظرة فقالوا: تجيء يوم القيامة سورة البقرة وتجيء سورة تبارك، قال فقلت لهم: إنما هو الثواب قال اللّه جلّ ذكره:(وَجٰاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢)) وإنما تأتي قدرته. وقال ابن حزم الظاهري في فصله: وقد روينا عن أحمد بن حنبل رحمه اللّه أنه قال: «وجاء ربك» إنما معناه: جاء أمر ربك اه. وهذا تأويل وتنزيه كما هو مذهب الخلف، وأما ما ينقل عن الإمام أحمد مما يخالف ما تقدم فهو تخرص صديق جاهل وسوء فهم لمذهب هذا الإمام. (ز).
(٢) يقول الأستاذ الشيخ محمد عبده رحمه اللّه فيما كتبه على العضدية عند الكلام على حديث افتراق الأمة: فإن قلت: إن كلام اللّه وكلام النبي صلى اللّه عليه وسلم مؤلف من الألفاظ العربية ومدلولاتها معلومة لدى أهل اللغة فيجب الأخذ بحاق مدلول اللفظ كان ما كان. قلت: حينئذ لم يكن ناجيا إلا طائفة المجسمة الظاهريون القائلون بوجوب الأخذ بجميع النصوص وترك طريق الاستدلال رأسا، مع أنه لا يخفى ما في آراء هذه الطائفة من الاختلال، مع سلوكهم طريقا ليس يفيد اليقين بوجه، فإن للتخاطبات مناسبات ترد بمطابقتها فلا سبيل إلا إلى الاستدلال وتأويل ما يبدي بظاهره نقصا إلى ما يفيد الكمال، وإذا صح التأويل للبرهان في شيء صح في بقية الأشياء حيث لا فرق بين برهان وبرهان ولا لفظ ولفظ. (ز).