لأن هذا استهلاك محدود فى محدود. فسيّان ـ فى قدرته (٣) ـ العرش والبعوضة ، فلا خلق العرش أشق وأعسر ، ولا خلق البعوضة أخف عليه وأيسر ، فإنه سبحانه متقدّس عن لحوق العسر واليسر.
فإذا كان الأمر بذلك الوصف ، فلا يستحى أن يضرب بالبعوضة مثلا كما لا يستحى أن يضرب بالعرش ـ فما دونه ـ مثلا.
وقيل إن جهة ضرب المثل بالبعوضة أنها إذا جاعت فرّت (١) وطارت ، وإذا شبعت تشققت فتلفت كذلك (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).
وقيل ما فوقها يعنى الذباب ، وجهة الإشارة فيه إلى وقاحته ، حتى إنه ليعود عند البلاغ فى الذب ، ولو كان ذلك فى الأسد لم ينج منه أحد من الخلق ، ولكنه لمّا خلق القوة فى الأسد خلق فيه تنافرا من الناس ، ولمّا خلق الوقاحة فى الذباب خلق فيه الضعف ، تنبيها منه سبحانه على كمال حكمته ، ونفاذ قدرته.
قوله جل ذكره : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً).
فأمّا من فتحت أبصار سرائره فلا ينظر إلى الأغيار والآثار إلا بنظر الاعتبار ، ولا يزداد إلا نفاذ الاستبصار. وأمّا الذين سكرت أبصارهم بحكم الغفلة فلا يزيدهم ضرب الأمثال إلا زيادة الجهل والإشكال والأنكال.
قوله جل ذكره : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).
هذا الكتاب لقوم شفاء ورحمة ، ولآخرين شقاء وفتنة. فمن تعرّف إليه يوم الميثاق بأنوار العناية حين سمعوا قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) تذكّروا عند ورود الواسطة ـ صلوات الله عليه وعلى آله ـ قديم عهده ، وسابق ودّه فازدادوا بصيرة على بصيرة ، ومن رسمه بذلّ القطيعة ، وأنطقه ذلك اليوم عن الحسبان والرهبة ما ازدادوا عند حصول الدعوة
__________________
(١) وردت (فريت) وهى خطأ فى النسخ.
(٣) وردت (قدرة).