الغرور ، والانابة إلى دار البقاء والسرور ، فترك جميع ما كان متصديا من الوعظ والتدريس ، وهجر جميع ما كان يحجبه عن الانس بالله وهو نعم الانيس ، فأشرق له من صبح السّعادة نور أضائت به غياهب الدجى ، وظهر له من نور الحقيقة ضياء تقشّعت عنه سحائب العمى ، واشتغل بالفكر والذكر والتلاوة ، وصرف ليله ونهاره في الزهادة والعبادة ، ولا يفتر عن ذكر «لا إله إلا الله» ليلا ونهارا ، ويبكى بكاء الثكلى على نفسه سرّا وجهارا بحيث تأذّى من شدّة بكائه الاخوان ، وفزع من عويله النساء والصبيان ، بحيث سئل عن جنابه ترك البكاء إما باللّيل وإمّا بالنهار بعض الجيران ، وذكروا أنّ شدّة بكائه يمنعهم عن النوم في تلك الاحيان.
ولقد سافرت معه في خدمته في خلال تلك الاحوال إلى زيارة النجف الاشرف في أحسن حال ، فما تكلّم معي في طول الطريق مع انحصار الرفيق بقليل ولا كثير إلا بكلمات قليلة ؛ يشتغل في خلالها بذكر الملك القدير ، وكان كلّ من ينظر إلى حاله وغليله ، ويرى من كثرة بكائه وعويله في أثناء الطريق من الاكراد وغيرهم ، الذين لا يعتقدون بدين ولا معاد ، أراهم يتغيّر حالهم من غير اختيار ، وتفيض أعينهم من الدمع من غير بصيرة واستبصار.
ودخل يوما من الايام في أثناء الطريق إلى الحمّام وكان فيه جماعة كثيرة من الاكراد والدهاقين والعوام ، فبمجرّد ما شاهدوا حاله ونظروا إلى جنابه ، ورأوا من خضوعه وخشوعه ، وأبصروا بكائه ودموعه ، تشوّشت أحوالهم وجرت دموعهم وخشعت أصواتهم. فسبحان الذي جعل للحقيقة أثرا في القلوب لا يحيط به العقول ، وجعل للحقّ حقيقة تؤثّر في النفوس ويذهب بالغفلة والذهول.
وكان لكلامه ـ قدسسره ـ أثر غريب في القلوب بحيث قلّ ما ينصح أحدا أو يوصيه بوصية إلا ويؤثّر في نفسه وهواه ، وتصرفه إلى إطاعة مولاه.
وقد قال يوما في النجف الاشرف لبعض أصحابنا الامجاد وهو الشيخ العلم العالم العماد الفاضل المؤيّد «الشيخ على محمّد» ـ سلّمه الله وأبقاه ، وبلّغه منتهى