__________________
ـ وأما قاضي القضاة المالكي فهبّت عليه نظرة من الشيخ فزوجه ابنته وترك القضاء ، وتبع طريقة الشيخ ، وأطال في ذكر مناقب الشيخ ، ثم قال : وبالجملة فما أنكر على الشيخ محيي الدين إلا بعض الفقهاء الفتح الذين لاحظ لهم في مشرب المحققين.
وأما جمهور العلماء والصوفية : فقد أقرّوا بأنه إمام أهل التحقيق والتوحيد ، وأنه في العلوم الظاهرة فريد ، قال : ولما جاور بمكة شرفها الله تعالى ، وكان البلد إذ ذاك مجمع العلماء أو المحدثين ، وكان الشيخ هو المشار إليه بينهم في كل علم تكلموا فيه ، وكانوا كلهم يتسارعون إلى مجلسه ، ويتبركون بالحضور بين يديه ، ويقرؤون عليه تصانيفه قال : ومصنفاته بخزائن مكة إلى الآن أصدق شاهد على ما قلناه.
وكان أكثر اشتغاله بمكة بسماع الحديث واسماعه ، وصنف فيها الفتوحات المكية ، كتبها على ظهر قلب جوابا لمسائل سأله عنها تلميذه بدر الدين الحبشي ، ولما فرغ منها وضعها في سطح الكعبة المعظمة فأقامت فيه سنة ، ثم أنزلها فوجدها كما وضعها لم يبتل منها ورقة ، ولا لعبت الرياح بها مع كثرة أمطار مكة ورياحها ، وما آذن للناس في كتابتها وقرائتها إلا بعد ذلك.
قال : وأما إشاعة بعض المنكرين عن الشيخ عز الدين بن عبد السّلام ، وعن الشيخ سراج الدين البلقيني أنهما أمرا بإحراق كتب الشيخ محيي الدين فكذّب وزوّر ، ولو أنها أحرقت لم يبق منها الآن بمصر والشام نسخة ، ولما كان أحد نسخها بعد كلام هذين الشيخين وحاشاهما من ذلك ، ولو أن ذلك وقع لم يخف ؛ لأنه من الأمور العظام التي تسير بها الركبان في الآفاق ، ويتعرض لذكرها أصحاب التواريخ.
قال الشيخ سراج الدين المخزومي : كان شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني ، وكذلك الشيخ تقي الدين السبكي ينكران على الشيخ محي الدين في بداية أمرهما ، ثم رجعا عن ذلك حين تحققا كلامه وتأويل مراده ، وندما على تفريطهما في حقه في البداية ، وسلّما له الحال فيما أشكل عليهما عند النهاية.
فمن جملة ما ترجمه به الإمام السبكي : كان الشيخ محيي الدين آية من آيات الله تعالى ، وأن الفضل في زمانه رمى بمقاليده إليه ، وقال : لا أعرف إلا إياه.
ومن جملة ما قاله الشيخ سراج الدين البلقيني فيه حين سئل عنه : إياكم والإنكار على شيء من كلام الشيخ محيي الدين ، فإنه لما خاض في لجج بحر المعرفة ، وتحقيق الحقائق عبر في أواخر عمره في النصوص ، والفتوحات ، والتنزلات الموصلية ، وفي غيرها بما لا يخفى على من هو في درجته من أهل الإثارة ، ثم أنه جاء من بعده قوم عمي عن طريقه فغلّطوه ذلك ، بل كفروه بتلك العبارات ولم يكن عندهم معرفة باصطلاحه ، ولا سألوا من يسلك بهم إلى إيضاحه ، وذلك أن كلام الشيخ تحته رموز ، وروابط ، وإشارات ، وضوابط ، وحذف مضافات في علمه ، وعلم أمثاله معلومة ، وعند غيرهم من الجهّال مجهولة ، ولو أنهم نظروا إلى كلماته بدلائلها وتطبيقاتها ، وعرفوا نتائجها