العالم الأنفسي من غير نقصان ، فضرب المثل بالبعوضة ، ضرب له ببعض أجزائها.
ولا شك أن الإنسان أشدّ انتقالا منه ؛ لأنه أعرف بنفسه وبأجزائه ، وذلك التمثيل لا ينافي عظمة الله تعالى وجلالته ؛ لأن له مراتب كثيرة ومجالات متعددة ، فقد يظهر سرّه في صورة الفيل والعنقاء ، وقد يظهر في صورة النمل والبعوضة ، وأيضا يظهر في صورة الشمس ، وفي صورة الهباء ، والله بكل شيء محيط.
فكما أنه غني عن العالمين في مرتبة غيب ذاته وهويته بحيث لا يضاف إليه التعيّن ، ولا تعيّن ؛ لأن كل منهما من الأمور الإضافية التي لا تناسب إطلاقه الحقيقي الذاتي ، فيكون إطلاق مثل ذلك عليه كفرا في الحقيقة ؛ لأنه من قبيل التقييد والتجرّد الذاتي ، عال غني عنه فكذا إنه تعالى رب العالمين ، فأضاف نفسه إلى العالمين بيانا لارتباطه بهم من حيث التجلّي الأحدي الساري في جميع الموجودات.
فكما أن الأم تربّي الطفل بلبنها الفائض من بطنها ؛ فكذا إن الله تعالى يربّي العالمين من حيث اسمه الباطن جسما يساعده الظاهر ، فإن التربية تابعة للمربين المربّي ، فيجيء التأثير من الباطن إلى الظاهر ، ويظهر أنواع الأغذية بحسب تأثيره وخلاقيته بحيث ينمو كل شيء إلى أن ينتهي إلى غايته في الكمال الجسماني والروحاني كما قال تعالى : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠](١).
وهذا الظهور بحسب التجلّي العام : استدعى ألا يستحيي الله تعالى من ضرب المثل بالبعوضة ؛ لأن البعوضة صورة من صور تجليّاته ، وداخلة تحت أسمائه وصفاته ، وإن كان اسمها من الأسماء الجزئية الداخلة تحت الأسماء الكلية ، فكما أن السلطان سلطان ، وهو جالس على سريره ؛ فكذا أقل خدّامه وهو قائم بين يديه ، فإن المضاف إلى السلطان سلطان ، ولو حكما ، فإنه صورة من صور أسمائه.
ألا ترى إلى مراتب رجال السلطنة حيث إن ملك المراتب مراتب للسلطان في
__________________
(١) قال سيدي علي وفا : فالناطق الآدمي مهيمن على كل ناطق كرني ربّاني ، والناطق الربّاني الإلهي مهيمن عليه من حيث كل ناطق ربّاني كوني ، وإن كان هو منهم من حيث هو ناطق ربّاني إلهي ، فناطق أئمة الهدي وجه أحسن الخالقين ، كما قال بعض مظاهره : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] ، فافهم.