في الحقيقة ظهر فيها بصورة أسمائه وخدّامه ، فإذا كان الله هو المتجلّي نوره في وجه البعوضة في بعض مراتب التنزّلات ؛ فالتمثيل إذا بالأصلي والأدنى سواء ؛ لأن كل شيء ، ففي قولهم : (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا) [٢٦] تحقيرا للممثّل الذي هو نور الله تعالى ، وسرّه العظيم الظاهر في الصورة الحقيرة ، فالحقارة راجعة إلى ظاهرها بحسب تعيّنها لا إلى باطنها بحسب المتعيّن فيها ، فاعرف فإنه من لباس المعرفة ، ومن تنبّه لأمثاله ، وهي لا تحصى ، ومن انكشفت بصيرته ؛ رأى الله في كل شيء قبل كل شيء ، ومع كل شيء ، وبعد كل شيء ، عجبا من المحجوبين كيف غفلوا عن الحقائق وهي حاضرة لديهم؟.
ألا ترى إلى السلطان مثلا إذا أحضروا ولده الصغير بين يديه كيف يعامله؟ هل يعامله بحسب مقامه من القبض والهيبة؟ أم بحسب مقام الصغير من الانبساط والأنس؟ ومن رأى انبساطه معه لا يقول أنه سقط عن رتبة السلطنة ؛ حيث لا يليق به هذه المعاملة ، فإن رتبة الصغير لا تقتضي إلا إياها ، فالسلطان سلطان على حاله ، وإن تنزّل إلى مرتبة الصغير في معاملة الانبساط.
وقد أخبر لسان الشرع عن مثل هذا كالفرح ، والضحك ، والمجيء ، والذهاب والتعجّب ، ونحو ذلك ، فمن أوّله فقد خرج عن طريق السداد وهم العلماء المحجوبون ، فإن الله تعالى بحسب قدس ذاته ، وإن كان لا يتّصف بمثله لكن إذا أضافه إلى نفسه في بعض مراتب تنزّلاته وتجليّاته وجب أن يفوّض الأمر إليه في ذلك ، وإبقاؤه على ظاهره من غير تأويل ، فإنه قال : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، فله سمع وأبصر بحسب ما يعلمه ، ولا يخرجه ذلك عن مرتبة غناه عن العالمين.
ألا ترى أن جبريل عليهالسلام كان قد يظهر في صورة دحية مع بقائه على حقيقته الملكية ، فهو ذو لحية ، وشعر ، وله كلام بشري ، ويد ، ورجل ونحو ذلك في تلك الصورة ، وهو عارضها في صورته الحقيقية ، وأمثلة هذا المقام كثيرة ؛ لكن لا ينفع العسل للممرور ، أذاقنا الله وإياكم حلاوة العلوم ، والمعارف ، وجعلنا من أهل الحكم ، والحقائق ، واللطائف.