فكما أن الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ على مشارب مختلفة من الجمال ، والجلال ، والهيبة ، والأنس (١) ؛ فكذا أقوامهم على استعدادات متفاوتة من القبول ؛ إذ جميع مراتب الدعوة من الأفعال ، والصفات ، والذات ، لم ينله إلا هذه الأمة المرحومة ؛ لكمال استعدادها ، ولكون النبي صلىاللهعليهوسلم قلب العالم بعث في مكة التي هي قلب البلاد ؛ لكن أمر بالهجرة ؛ ليبقى التوجه إلى الله تعالى ، فإن حرم الله لا يشاركه فيه أحد كائن من كان.
فاعرف الغيرة (٢) الإلهية ، فتقرر أن توجه القلب إنما هو إلى المسجد الحرام ؛ لأنه في صورة مسمّى الله ، وأمّا النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ فهو سرّ للمسمّى ، فالحجر الأسود يد الله صورة ، واليد النبوية يد الله معنى ، وكذا أيدي الورثة الكبار.
الحاصل أن المساجد كلها قبلة ، والكل متوجه إلى صورة الكعبة ، وكذا أبدان من صلّى فيها ووجوههم ، وإن القلوب كلها قبلة ، والكلّ متوجه إلى سرّ الكعبة ، وهو النبي صلىاللهعليهوسلم في الظاهر ، ومسمّى الله الأحدي في الباطن ، فمن مشى على المراتب ،
__________________
(١) قال الشعراني رضي الله عنه في «القواعد الكشفية» في الكلام على الأنس بالله : إن ذلك لا يصحّ لأحد من الأولياء ؛ لما تقدم من الجهل بكنه الذات.
وقد قال الولي الكامل سيدي علي بن وفا رحمهالله : (لا يصحّ الأنس بالله تعالى لأحد من المحققين ، وما أنس إلا بما منه من التقريبات لا بذاته تعالى).
قلت : وقد أجمع أهل الطريق على ما قاله سيدي علي بن وفا رحمهالله تعالى ، وقالوا : الأنس لا يصحّ إلا بالمشاكلة والمناسبة ، وليس بين الخلق وربهم مشاكلة ولا مناسبة ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا اه.
ثم قال : إيّاك أن تقول أنك أنست بالله تعالى عينا ؛ فإن ذلك لا يصحّ ، وقد سمعت مرة هاتفا يقول :
(إذا كان كل شيء خطر ببال عبدي فأنا بخلافه ، فكيف يصح له مناجاتي على الكشف والشهود والأنس بي) اه (ص ٥٨).
وقد قال سيدي محمد وفا رضي الله عنه وعنّا به في تعريف الأنس : الأنس هو ظهور علامات تشعر النفس بنيل المراد ، وحقيقته : مد يد الأطماع إلى اقتطاف ثمر المواصلة ، وغايته : تصرف العبد في ملك الرب ؛ اعتمادا على التحقيق بصحة المحبة التي توجب رفع علل المغايرة اه.
(٢) قال سيدي محمد وفا رضي الله عنه وعنّا به : الغيرة هي حرص يوجب صون المخصوص بالمحبة عن إشراف لواحظ الأسباب المؤدّية إلى بذله ، مع عدم الاستحقاق ، واستقباح فحش الشركة فيه ، وحقيقتها : حمية تستلزمها المحبة ؛ لمنع صفاء ما يكدر صفاء العين مع المحبوب انتهى.