فمن طلب الثمر بلا شجر ، ولا ورق ، والسمن والزبد بلا حلب ، ولا لبن ؛ فقد ضرب حديدا باردا ، وخرج عن حدّ الحكمة ، وصار أكفر من الحمار.
وأورد الاسم الرب ؛ لأن الطاعة مما يوجبه الربوبية ، فإن الذي يربّي عبد لا بد وأن يكون مشكورا ، كما قال صلىاللهعليهوسلم : «أفلا أكون عبدا شكورا» (١).
وقدّم مرتبة الشريعة التي هي مرتبة الطاعة ؛ لأنها مفتاح باب الحقيقة ، فلن يدخل هذا الباب أحد إلا بهذا المفتاح ، وعليه جميع الأنبياء والأولياء من طلبه بغيره ؛ بقى خارج الباب ، ولم يكن على طائل أصلا.
قال عزوجل : (وَاسْجُدِي) [الآية : ٤٣].
إشارة إلى مرتبة الحقيقة ؛ فإن السجدة عبارة عن الفناء في الله ؛ فكأنه تعالى يقول : يا مريم اعملي عمل الشريعة ؛ وهي الطاعة بالبدن ، واعملي عمل الحقيقة (٢)
__________________
ـ فإذا كان هو حقيقة كل شيء ، فالأشياء كلها هي به على ما هي عليه ، فهو الحقيقة الموجودة في كل حقيقة ، وهو الذات المستحقة بذاتها لكل ذات ، فهو مع كل شيء بوجوده ؛ فلا غيبة ولا حجاب ، والغيبة والحجاب : هو الجهل بهذا الاتصال والاستحقاق الذي ذكرناه ، والغفلة عن ملاحظته وشهوده في كل شيء ؛ بل شهوده ولا شيء معه.
وعلم الشريعة ؛ يزيل الجهل المذكور ، ووظائفها ؛ ترفع الغفلة ، وتنبه على الحضور مع الحاضر في كل حضور ، فالحق هو نتيجة الشرائع ، وعلوم الشريعة بهذا الوجه : هي علوم التحقيق ، فاعلم ذلك.
فإذا حقيقة لا اله إلا الله : ألا موجود إلا هو ، وما خلا الله باطل ، والوهم يشعر بغيره ، والوظائف الشرعية تذكر بالله ، وذكره يزيل الوهم ، ويمحو خبر الغيرية ، ويقيم العبد في الحضرة الحاضرة في حضوره ، فالحق نتيجة الشرائع كما قال ، وهذا الكلام في نتيجة الشرائع ، والحقيقة الجامعة ، وعلوم التحقيق قد تخلص ، فافهمه.
(١) رواه البخاري (٤ / ١٨٣٠) ، ومسلم (٤ / ٢١٧١).
(٢) قال السيد مصطفى البكري في السيوف الحداد : اعلم أن الشريعة هي الباب واللباب ، التي تهدي إلى صواب الصواب ، وأول واجباتها معرفة رب الأرباب على طبق السّنة والكتاب ، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام : معرفة عوام ، وخواص ، وخواص الخواص.
فالأولى : معرفة ما يجب وما يجوز وما يستحيل في حقه تعالى ، وكذلك في حق رسله ، وهذه واجبة على كل مكلف ؛ لئلا يشتبه عليه الحال فيقع في الخيال ، وليسلم من ورطة التقليد في التوحيد.