ولم يكن ابن عباس ذا ذاكرة قوية خارقة فقط ، بل وذا ذكاء نافذ وفطنة بالغة ، كانت حجته إذا حاجج كما الشمس في رابعة النهار ـ بهجة ووضوحا وألقا ـ وما كان يحاور ويحاجج زهوا بعلمه ولا إظهارا لقوة منطقة وصلابة موقفه ، بل كان يرى ذلك سبيلا لإظهار الحق ومعرفة الصواب.
عرف له ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فوجهه إلى الخوارج فحاورهم حوارا رائعا ، بيّن فيه الحق ، وساق الحجة بشكل يبهر الألباب ، فما كاد ينتهي النقاش حتى نهض منهم عشرون ألفا راجعين عن خروجهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، معلنين أحقّيّة الإمام علي فيما يسير إليه.
وما نسوقه في هذا الكتاب من مسائل ، مظهر آخر من مظاهرة قوة الرجل في علمه وحجته ، وما كان لابن عباس من الثروة العلمية بأقل مما له من ثروة الخلق والكرم ، وسخاؤه بالمال لم يكن بأقل من سخائه بالعلم.
يقول عنه أحد معاصريه : ما رأيت بيتا أكثر طعاما ولا شرابا ولا فاكهة ولا علما من بيت ابن عباس.
تخلّق ابن عباس بأخلاق الإسلام ، وتمثّل آداب العلماء ، فكان طاهر القلب ، نقي النفس لا يحمل ضغنا لإنسان ، يتمنى الخير لكل مخلوق. يقول عن نفسه : إني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم ، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل ويحكم بالقسط. فأفرح به ، وأدعو له ، ومالي عنده قضية ، وإني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به ، وما لي بتلك الأرض سائمة (٨).
ولئن قال الله جلّ جلاله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٩) ، فإن ابن عباس لمن أشد الناس خشية لله ، وأكثرهم تعبدا وتضرعا ، بكّاء إذا صلى أو قرأ القرآن ، فأبدا لم يكن من الذين يقولون ما لا يفعلون ، وإنما صوّاما لنهاره ، قوّاما ليله. حدّث عبد الله بن مليكة فقال : صحبت ابن عباس رضي الله عنه من مكة إلى
__________________
(٨) السائمة : الإبل أو الماشية ترسل للرعي ولا تعلف. الجمع : سوائم.
(٩) سورة فاطر ، الآية : ٢٨.