المدينة ، فكنا إذا نزلنا منزلا قام شطر الليل والناس نيام ، ولقد رأيته ذات ليلة يقرأ : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٠). فظل يكررها وينشج حتى طلع عليه الفجر.
أما بالنسبة لذكاء ابن عباس فحدّث ولا حرج. روى الأصبهاني في الأغاني قال :
بينا ابن عباس في المسجد الحرام ، وعنده نافع بن الأزرق (١١) ، وناس من
__________________
(١٠) سورة ق ، الآية : ١٩.
(١١) نافع بن الأزرق : بن قيس الحنفي البكري الوائلي الحروري ، أبو راشد ، رأس الأزارقة وإليه نسبتهم كان أمير قومه وفقيههم ، من أهل البصرة ، صحب في أول أمره عبد الله بن عباس ، قال الذهبي له أسئلة في جزء ، أخرج الطبراني بعضها في مسند ابن عباس من المعجم الكبير. وأورد السيوطي بعضها في الإتقان ـ وقد جئنا بجميع هذه الأسئلة في كتابنا الذي بين يديك ـ وكان نافع وأصحاب له من أنصار الثورة على الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ووالوا عليا كرم الله وجهه. إلى أن كانت قضية التحكيم بين الإمام علي رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان ، فاجتمعوا في حروراء ـ وهي قرية من ضواحي الكوفة ـ ونادوا بالخروج على الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعرفوا لذلك ، هم ومن تبع رأيهم بالخوارج. وكان نافع بن الأزرق يذهب إلى سوق الأهواز ويعترض الناس بما يحيّر العقل ـ كما يقول الذهبي ـ ولما ولي عبيد الله بن زياد إمارة البصرة سنة (٥٥) ه في عهد معاوية اشتد على (الحروريين) وقتل سنة (٦١) ه زعيمهم أبا بلال مرداس بن حدير ، وعلموا بثورة عبد الله بن الزبير على الأمويين بمكة ، فتوجهوا إليه مع نافع ، وقاتلوا عسكر الشام في جيش ابن الزبير إلى أن مات يزيد بن معاوية سنة (٦٤) ه وانصرف الشاميون ، وبويع ابن الزبير للخلافة ، وأراد نافع وأصحابه أن يعملوا رأي ابن الزبير في عثمان فقال لهم : قد فهمت الذي ذكرت به عثمان. وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني كنت معه حيث نقم عليه ، واستعتبوه فلم يدع شيئا إلا أعتبهم ، ثم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه يأمر فيه بقتلهم. فقال لهم : ما كتبته. فإن شئتم فهاتوا بيّنتكم ، فإن لم تكن حلفت لكم ؛ فو الله ما جاءوا ببينة ولا استحلفوه. ووثبوا عليه فقتلوه ، وقد سمعت ما عبته به ، فليس كذلك ، بل هو لكم خير أهل ، وأنا أشهدكم ومن حضرني أني ولي عثمان بن عفان وعدوّ لأعدائه ، ولم يرض هذا نافعا وأصحابه ، فانفضوا من حوله ، وعاد نافع ببعضهم إلى البصرة ، فتذاكروا فضيلة الجهاد ـ كما يقول ابن الأثير ـ وخرج بثلاثمائة وافقوه على الخروج ، وتخلف عبد الله بن إباض وآخرون فتبرأوا منهم ، وكان نافع جبارا فتاكا ، قاتله المهلب بن أبي صفرة ولقي الأهوال في حربه. وقتل نافع يوم دولاب على مقربة من الأهواز سنة (٦٥) ه الموافق (٦٨٥) م. (انظر :
الكامل للمبرد : ٢ / ١٧٢ ـ ١٨١. ورغبة الآمل : ٧ / ١٠٣ ـ ١٥٦ و ٢٢٠ و ٢٢٩ و ٢٣٦