ثمّ بيّن سبحانه ما يوجب استبعاد كفرهم بقوله : ﴿وَشَهِدُوا﴾ قيل : إنّ المراد وبعد أن شهدوا وأعترفوا في مجامع النّاس ومشاهدهم ، أو والحال أنّهم اعترفوا ﴿أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ﴾ ودعواه صدق ﴿وَجاءَهُمُ﴾ من القرآن وسائر المعجزات وخوارق العادات ﴿الْبَيِّناتُ﴾ والشّواهد الواضحات على صدقه ، بحيث لم يتوهّم في حقّهم الشّبهة فيه ، وفي صحّة دينه ، فكان ارتدادهم من أقبح القبائح ؛ لأنّ زلّة العالم أقبح من زلّة الجاهل ، وكفرهم ورجوعهم عن الإسلام غاية الظّلم على النّفس ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي﴾ إلى الحقّ ، ولا يوفّق للخير ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ المتمرّنين على الظّلم ، المصرّين على الفساد ، المنهمكين في الشّهوات ، لغاية خبث ذاتهم ، ورذالة صفاتهم.
﴿أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خالِدِينَ
فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ(٨٧) و (٨٨)﴾
ثمّ بالغ سبحانه في التّهديد والوعيد بقوله : ﴿أُولئِكَ﴾ المرتدّون ﴿جَزاؤُهُمْ﴾ المقرّر على مقتضى استحقاقهم ﴿أَنَّ عَلَيْهِمْ﴾ استقرّت ﴿لَعْنَةَ اللهِ﴾ والبعد عن رحمته ، الموجب للحرمان عن النّعم الأخرويّة ، وللعذاب بالنّار ﴿وَ﴾ عليهم لعنة ﴿الْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ .
قيل : إنّ المراد خصوص المؤمنين منهم ، وقيل : إنّ المراد هو العموم ، حيث إنّ الكفّار أيضا يلعنون في الدّنيا كلّ مبطل كافر ، غير أنّهم يدّعون أنهم أنفسهم مؤمنون محقّون.
كما أنّ ظالمي آل محمّد صلىاللهعليهوآله يلعنون ظالميهم ويدّعون أنّهم غيرهم ، حال كونهم ﴿خالِدِينَ فِيها﴾ قيل : أي مقيمين في اللّعنة ، وعن ابن عبّاس رضى الله عنه : خالدين في جهنّم (١) أبدا ﴿لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ﴾ في جهنّم ﴿الْعَذابُ﴾ الشّديد ﴿وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ ويمهلون ساعة ، ولا يؤخّرون لحظة.
﴿إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)﴾
ثمّ دفع الله سبحانه توهّم أنّ اللّعنة الدّائمة والعذاب الخالد لكلّ من تلبّس بالكفر والارتداد ، وإن تاب وأسلم بقوله : ﴿إِلَّا الَّذِينَ تابُوا﴾ ورجعوا إلى الإسلام الحقيقي ﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ الكفر والارتداد ، وآمنوا عن صميم القلب ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ قلوبهم وأعمالهم الفاسدة ، فإنّهم تقبل توبتهم ، ويتفضّل عليهم ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ﴾ للذّنوب ﴿رَحِيمٌ﴾ بعباده الصّالحين.
عن الصادق عليهالسلام : « نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له الحارث بن سويد بن الصّامت ، وكان
__________________
(١) تفسير الرازي ٨ : ١٢٩.