وفرط ثباتهم فيه كأنّه ﴿هُمُ الضَّالُّونَ﴾ عن طريق الحقّ والصّواب ، لا ضالّ غيرهم. وفيه غاية المبالغة في ضلالهم لكمالهم فيه ، وعدم توقّع اهتدائهم.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً
وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)﴾
ثمّ ذكر القسم الثالث من المرتدّين ؛ وهم الّذين لا يتوبون ، لا ظاهرا ولا واقعا حتّى يموتوا ، بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله وارتدّوا عن دين الإسلام ﴿وَ﴾ بعد ارتدادهم ﴿ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ غير تائبين عن كفرهم وارتدادهم إلى الموت ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ﴾ لدفع العذاب عنهم في الآخرة ﴿مِلْءُ الْأَرْضِ﴾ شرقها وغربها على الفرض المحال ﴿ذَهَباً﴾ خالصا ، وهو كناية عن أعزّ الأموال ﴿وَلَوِ افْتَدى﴾ الكافر ﴿بِهِ﴾ لخلاص نفسه.
قيل : إنّما آثر التّعبير بالافتداء على الإهداء لأنّ الفداء آثر في العفو من الهدية ، حيث إنّ المولى قد لا يقبل الهديّة من عبده ، ولكن يقبل الفداء منه.
وحاصل المراد : أنّ الكافر لو فرض قدرته يوم القيامة على أعزّ الأموال ، وكان بالغا إلى غاية الكثرة ، فبذله - ولو بعنوان الفدية ، ليتوسّل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله - لا يفيده في نيل مقصوده.
﴿أُولئِكَ﴾ المتّصفون بأشنع الصّفات ؛ وهو الكفر ، البعيدون عن رحمة الله ﴿لَهُمْ﴾ بالاستحقاق ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ وعقوبة موجعة ﴿وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ﴾ يدفعون عنهم العذاب ، فهم آيسون من تخليص أنفسهم ؛ لانقطاع جميع الوسائل العاديّة للخلاص من الشّدائد عنهم.
﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)﴾
ثمّ لمّا ظهر من الآية أنّ بذل المال في الآخرة غير نافع في الخلاص من العذاب ، بيّن سبحانه أنّ وسيلة الخلاص منه ، وموجب نيل كلّ خير ، هو الإنفاق من أحبّ الأموال في الدّنيا ، بقوله : ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ﴾ ولا تصلون إلى الخير والثّواب في الدّنيا والآخرة أبدا ، بوجه من الوجوه ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا﴾ وتبذلوا في سبيل الله وطلب مرضاته شيئا ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وبعضا ممّا يعجبكم من كرائم الأموال ، أو منها ومن غيرها مهجة كان ، أو عملا ، أو علما ، أو جاها ، أو غيرها.
ومن الواضح أنّ الإنفاق بالمحبوب لا يكون إلّا إذا أيقن المنفق بأنّ إنفاقه وسيلة النيل بالأحبّ والأشرف من المبذول ، فالإنسان لا ينفق محبوبه في الدّنيا لوجه الله إلّا إذا أيقن بالمبدأ والمعاد