اليهودي وكان شديد الحسد للمسلمين ، فغاضه ما رأى منهم من تآلف القلوب ، واتّحاد الكلمة ، واجتماع الرّأي ، بعد ما كان فيهم (١) من العداوة والشنآن ، فأمر شابّا يهوديا كان معه بأن يجلس إليهم ويذّكرهم يوم بعاث (٢) - وكان ذلك يوما عظيما اقتتل فيه الحيّان ، و[ كان ] الظّفر فيه للأوس - وينشدهم ما قيل فيه من الأشعار ففعل ، فتفاخر القوم وتغاضبوا حتّى تواثبوا وقالوا : السّلاح السّلاح ، فاجتمع من القبيلتين خلق كثير.
فعند ذلك جاءهم النبيّ صلىاللهعليهوآله وأصحابه فقال : « أتدعون الجاهليّة وأنا بين أظهركم ، بعد أن أكرمكم الله تعالى بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة ، وألّف بينكم ؟ ! » ، فعلموا أنّها نزغة من الشّيطان ، وكيد من عدوّهم ، فألقوا السّلاح واستغفروا ، وعانق بعضهم بعضا ، وانصرفوا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله (٣) .
وقال الواحدي : اصطفّوا للقتال ، فنزلت الآيات إلى قوله : ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(٤) فجاء النبيّ صلىاللهعليهوآله حتّى وقف بين الصّفّين فقرأهنّ ورفع صوته ، فلمّا سمعوا صوت رسول الله صلىاللهعليهوآله أنصتوا له ، وجعلوا يستمعون له ، فلمّا فرغ ألقوا السّلاح ، وعانق بعضهم بعضا ، وجعلوا يبكون (٥) . فما كان أقبح أوّلا ، وأحسن آخرا من ذلك اليوم !
أقول : انظروا إلى قوّة تأثير القرآن في النّفوس ، كيف انقلبوا باستماعه من أسوأ الأحوال إلى أحسنها ! وحاصل معنى الآيتين : أنّه إن لان المؤمنون لليهود وقبلوا قولهم ، أدّى ذلك حالا بعد حال إلى أن يعودوا كفّارا ، والكفر موجب للهلاك في الدّنيا والآخرة.
أمّا في الدّنيا فبوقوع العداوة والبغضاء ، وهيجان الفتن ، وثوران المحاربة المؤدّي إلى سفك الدّماء ، وتلف النّفوس. وأمّا في الآخرة فبعذاب الأبد ، ومع أنّه يكفي وجود هذه المفاسد العظيمة فيه ، الموجبة لعدم توجّه العاقل إليه ، تكون الصّوارف والزّواجر الخارجية عنه موجودة لكم ، فعند ذلك لا يتوقّع صدوره منكم ، بل لا يعقل اختياره من العاقل المختار إلّا للجهل ، واتّباع هوى النّفس ، وتأثير وساوس الشّيطان ، ولا عاصم منه إلّا الاعتصام بالله وبرسوله ، فمن اعتصم بهما حصل له الاهتداء إلى كلّ خير ، والفوز بجميع النّعم ، وانسدّ عليه باب الضّلال ، والوقوع في المهالك.
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ
أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ
__________________
(١) في تفسير أبي السعود : كان بينهم ما كان.
(٢) بعاث : موضع قرب يثرب ، وفيه اقتتل الأوس والخزرج في الجاهلية.
(٣) تفسير أبي السعود ٢ : ٦٤.
(٤) آل عمران ٣ : ١٠٣.
(٥) تفسير أبي السعود ٢ : ٦٤.