المقامُ ، وبودّي أن أذكر مجملاً مِن ذلك ، ولو كان في ذلك خروجٌ عن خطّتنا الإيجازيّة ؛ فهذا ـ وأيّم الحقّ ـ مقامَ الوفاء ؛ ووقت إعطاء النَصْفِ ، وقضاء الحقوق ؛ فإنّي لعلى يقين مِن أنّني لا ألتقي بأستاذي المعظّم ومعلّمي الأوّل بعدَ موقفي هذا إلاّ في عرصاتِ القيامة ، فما بالي لا أفي حقَّه وأغنم رضاه.كان ـ أعلى الله مقامَه ـ ملتزماً بالوظائف الشرعيّة على الدوام ، وكان لكلّ ساعة مِن يومِه شغلٌ خاصٌّ لا يتخلّفُ عنه ، فوقتُ كتابتِه مِن بعد صلاةِ العصر إلى قُربِ الغروب ، ووقتُ مطالعتِه مِن بعد العشاء إلى وقت النوم ، وكان لا ينامُ إلاّ متطهّراً ، ولا ينامُ مِن اللَّيل إلاّ قليلاً ، ثمّ يستيقظ قبل الفجر بساعتين فيجدّد وضوءَه ، ولا يستعملُ الماء القليل ، بل كان لا يتطهّر إلاّ بالكُرّ ، ثمّ يتشرّفُ قبلَ الفجر بساعة إلى الحرم المطهّر ، ويقف ـ صيفاً وشتاءً ـ خلفَ بابِ القبلة فيشتغلُ بنوافل اللَّيل إلى أن يأتي السيّدُ داود نائب خازن الروضة وبيده مفاتيحُ الروضة فيفتح البابَ يدخل شيخُنا ، وهو أوّلُ داخل لها وقتذاك.
وكان يشترك مع نائب الخازن بإيقاد الشموع ، ثمّ يقف في جانب الرأس الشريف ، فيشرع بالزيارة والتهجّد إلى أن يطلع الفجرُ ، فيصلّي الصبحَ جماعةً مع بعض خواصّه مِن العبّاد والأوتاد ، ويشتغل بالتعقيب.
وقبل شروق الشمس بقليل يعود إلى داره ، فيتوجّه رأساً إلى مكتبته العظيمة المشتملة على ألوف مِن نفائس الكتب والآثار النادرة العزيزة الوجود أو المنحصرة عنده ، فلا يخرج منها إلاّ للضرورة.