سَقَيْتَ لَنا﴾ فأجاب موسى الدعوة شوقا إلى زيارة شعيب ، وطلبا لخدمته ، لا طمعا في طعامه وأجره ، فقام وانطلقا وهي أمامه ، فالزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته ، أو كشفت عن ساقيها ، فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فتأخرّت وكانت تقول : عن يمينك ، أو عن شمالك ، أو عن قدّامك.
القمي : فقام موسى معها ، ومشت أمامه ، فصفقتها الرياح ، فبان عجزها ، فقال لها موسى تأخّري ودلّيني على الطريق بحصاة تلقيها أمامي اتّبعها ، فأنا من قوم لا ننظر في أدبار النساء ، الخبر (١) .
فمشيا حتى اتيا دار شعيب ، فبادرت المرأة إلى ابيها فأخبرته ، فأذن له في الدخول ، وشعيب يومئذ شيخ كبير ، وقد كفّ بصره ﴿فَلَمَّا جاءَهُ﴾ موسى سلّم عليه فردّ عليهالسلام وعانقه. ثم أجلسه بين يديه ، وقدّم إليه الطعام فامتنع منه ، وقال : أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيته ، وإنّا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا. فقال شعيب لا والله يا شاب ، ولكن هذه عادتنا مع كلّ من ينزل بنا ، فأكل منه ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ وأخبره بما جرى عليه من ولادته إلى فراره من فرعون وقومه ومجيئه إلى مدين ﴿قالَ﴾ له شعيب : ﴿لا تَخَفْ﴾ هنا من فرعون وقومه ، فانّك ﴿نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ فانّه لا سلطان لهم بأرضنا ، ولسنا في مملكة فرعون.
﴿قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قالَ
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ
أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ (٢٦) و (٢٧)﴾
فبينما كانا يتكلّمان ويتوانسان وكانت بنتا شعيب حاضرتين إذ ﴿قالَتْ إِحْداهُما﴾ وهي الكبرى التي جاءت في طلب موسى : ﴿يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ﴾ لرعي أغنامك والقيام بامورها ، فانّ للرجل قوة على العمل والأمانة في العرض والمال ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ﴾ رقبتهم وأفضلهم الأجير ﴿الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾.
روي أنّ شعيبا قال لها : ما أعلمك بقوته وأمانته ؟ فذكرت له ما شاهدت منه من إقلال الحجر عن رأس البئر ، ونزح (٢) الدلو الكبير ، وأنّه خفّض رأسه عند الدعوة ولم ينظر إليها تورّعا حتى بلغت رسالتها ، وأنّه أمرها بالمشي خلفه (٣) .
والقمي - في حديث - : « فقال لها شعيب : أمّا قوّته فقد عرفتها بأنّه يسقي الدلو وحده ، فبما عرفت
__________________
(١) تفسير القمي ٢ : ١٣٨ ، تفسير الصافي ٤ : ٨٦.
(٢) في تفسير أبي السعود وتفسير روح البيان : نزع.
(٣) تفسير البيضاوي ٢ : ١٩١ ، تفسير أبي السعود ٧ : ١٠ ، تفسير روح البيان ٦ : ٣٩٧.