ثمّ أذن لهما بالدخول ، وهو جالس على سريره ، وحوله أشراف مملكته ﴿فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا﴾ ومعجزاتنا حال كونها ﴿بَيِّناتٍ﴾ وواضحة الدلالات على صدقهما في الرسالة ﴿قالُوا﴾ يا موسى ما هذا الذي جئت به من العصا واليد البيضاء وغيرهما من خوارق العادات ﴿إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً﴾ على الله ، وكذب نسبته إليه من أنّه معجزة أجراها الله بيدك ﴿وَما سَمِعْنا﴾ بهذا السحر ، أو ﴿بِهذا﴾ الذي تقول من التوحيد والرسالة ﴿فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ وأسلافنا الاقدمين ﴿وَقالَ مُوسى﴾ لمّا رأى منهم العناد واللّجاج : ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى﴾ ودين الحق ، وأرشد إلى الطريق إليه ﴿مِنْ عِنْدِهِ﴾ ومن قبله ، ومن قال بالضلال والباطل منّا ومنكم فيعامل كلا بما يستحقّه ﴿وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ﴾ هذه ﴿الدَّارِ﴾ الفانية ، وهي الجنة والنّعم الدائمة والراحة الأبدية التي هي أحسن العواقب وأحمدها.
ثمّ بالغ سبحانه في تهديدهم بقوله : ﴿إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ على أنفسهم بإهلاكها بالكفر والعناد للحقّ وتكذيب الرسل ، ولا يفوزون بخير ، ولا ينجون من عذاب. ثمّ قيل : إنّه لمّا آل الأمر إلى إحضار السّحرة ومعارضتهم موسى عليهالسلام بالسحر ، جمع السحرة (١)﴿وَقالَ فِرْعَوْنُ﴾ بعد حضورهم واجتماع الناس في الموعد : ﴿يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ﴾ ومعبود ﴿غَيْرِي﴾ في الأرض ، فمن يدّعي ذلك فعليه إثباته بالحجّة القاطعة والبراهين الواضحة.
روي أنه كان بين هذه الكلمة وبين قوله : ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى﴾ أربعين سنة (٢).
﴿فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ (٣٨)و(٤٠)﴾
ثمّ لمّا كان نفي الحجّة العقلية على إثبات صانع للعالم غير تأثيرات الأفلاك والكواكب ملازما لحصر طريق العلم بالمشاهدة ، قال تمويها على الناس ، أو حمقا وجهلالة ، أو تهكّما لوزيره ﴿فَأَوْقِدْ لِي﴾ واشعل النار ﴿يا هامانُ عَلَى الطِّينِ﴾ واطبخ الآجرّ قيل : إنّه أول من عمله (٣)﴿فَاجْعَلْ لِي﴾ وابن منه ﴿صَرْحاً﴾ وقصرا رفيعا أعلو عليه ﴿لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى﴾ واشاهده ، إنّه كما يقول ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ﴾ في ادّعائه أنّ له إلها في السماء.
قيل : إنّه لمّا أمر ببناء الصّرح ، جمع هامان العمّال حتى اجتمع خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع
__________________
(١و٢) تفسير روح البيان ٦ : ٤٠٦.
(٣) تفسير البيضاوي ٢ : ١٩٣ ، تفسير روح البيان ٦ : ٤٠٦.