والاجراء ، وأمر بطبخ الآجرّ والجصّ ونجر الخشب وضرب المسامير ، فشيّدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق (١) .
قيل : كان ملاط القصر خبث (٢) القوارير ، وكان الرجل لا يستطيع القيام عليه من طوله مخافة أن تنسفه الريح ، وكان طوله خمسة آلاف ذراع ، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع (٣) .
فلمّا تمّ بناء الصّرح علاه فرعون ظانا أنّه يصير أقرب إلى السماء بحيث يمكنه رؤية ما فيها ، فلمّا نظر بعد ارتقائه فوقه إلى السماء رآها كما رآها من فوق الأرض ، فانفعل ورمى بنشابة نحو السماء ، فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم ، فقال : قد قتلت إله موسى ، فعند ذلك بعث الله جبرئيل لهدمه وقت غروب الشمس ، فضربه بجناحه فقطعه ثلاثة قطع : قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل ، وقطعة وقعت في البحر ، وقطعة في المغرب ، فلم يبق أحد من عمّاله إلّا وقد هلك (٤) .
وروى القمي - في حديث - « فبنى له هامان في الهواء صرحا حتى بلغ في الهواء مكانا لا يتمكن الانسان أن يقوم عليه من الرياح العاصفة ، فقال لفرعون : لا نقدر أن نزيد على هذا ، فبعث الله عزوجل رياحا فرمت به ، فاتّخذ فرعون وهامان عند ذلك التابوت ، وعمدا إلى أربعة أنسر ، فأخذا افراخها وربيّاها : حتى إذا بلغت القوّة وكبرت ، عمدا إلى جوانب التابوت الأربعة ، فغرزا في كلّ جانب منه خشبة ، وجعلا على رأس كلّ خشبة لحما ، وجوّعا الأنسر ، وشدّا أرجلها بأصل الخشبة ، فنظرت الأنسر إلى اللّحم ، فأهوت إليه ، فصفّقت بأجنحتها ، وارتفعت بها في الهواء ، وأقبلت تطير يومها. فقال فرعون لهامان : انظر إلى السماء هل بلغناها ؟ فنظر هامان فقال : أرى السماء كما كنت أراها من الأرض في البعد. فقال : انظر إلى الأرض. فقال : لا أرى الارض ، ولكن أرى البحار والماء ».
قال : فلم تزل الأنسر (٥) ترتفع حتى غابت الشمس ، وغابت عنهما البحار والماء ، فقال فرعون : يا هامان انظر إلى السماء ، فنظر إليها ، فقال : أراها كما كنت أراها من الأرض ، فلمّا جنّهم الليل نظر هامان إلى السماء ، فقال فرعون : هل بلغناها ؟ قال : أرى الكواكب كما كنت أراها في الأرض ، ولست أرى من الأرض إلّا ظلمة.
ثمّ حالت الرياح العائمة في الهواء ، فانقلب (٦) التابوت بهما ، فلم يزل يهوي بهما حتى وقع على
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٥٣.
(٢) الخبث : ما ينفيه الكبر من الحديد ونحوه عند إحمائه وطرقه.
(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٤٠٦.
(٤) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٥٣.
(٥) في النسخة : النسر.
(٦) في النسخة وتفسيري القمي والصافي : فاقبلت.