الأرض ، وكان فرعون أشدّ ما كان عتوّا في ذلك الوقت (١) .
وقيل : إنّه لم يبن الصّرح ، لغاية البعد من العاقل أن يتوهّم أنّ بصعود الصّرح يقرب إلى السماء مع وضوح أنّ من علا على الجبال الشامخة يرى السماء كما كان يراها من الأرض ، وهكذا الكلام فيما نقل من رمي السّهم إلى السماء ورجوعه متلطّخا بالدم ، فانّ العاقل يعلم أنّه لا يمكنه إيصال السّهم إلى السماء ، ومن اعتقد ذلك عدّ من المجانين (٢) .
فلا بدّ من حمل أمره ببناء الصّرح على إرادة إيهام البناء ، ولم يبن ، أو على إرادة التهكّم كأنّه قال : لا سبيل إلى إثبات وجود إله السماء إلّا بالدليل أو بالحسّ ، ولا دليل عليه ، فانّ التغيّر في العالم يمكن أن يكون بحركات الأفلاك والكواكب ، ولا يمكن الإحساس إلّا بالصعود إلى السماء ، وذلك لا سبيل إليه ، ثمّ قال لهامان تهكّما : ابن لي صرحا ، ثمّ رتّب على المقدّمتين قوله : ﴿إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ﴾.
﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ﴾ وتعظّموا عن الايمان بموسى والانقياد للحقّ في المصر وما يليه ﴿بِغَيْرِ الْحَقِ﴾ وبلا استحقاق ، ولم يخافوا عذابه ونكالا حيث توهّموا ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ﴾ بعد الموت ﴿إِلَيْنا﴾ وإلى حكمنا ﴿لا يُرْجَعُونَ﴾ لجزاء أعمالهم وتكبّرهم وعنادهم ﴿فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ﴾ بالعذاب بعد ما بلغوا من الكفر والطغيان النهاية أخذ عزيز مقتدر ﴿فَنَبَذْناهُمْ﴾ وألقيناهم ﴿فِي الْيَمِ﴾ وبحر القلزم (٣) ، وعاقبناهم بالإغراق ، وفي تشبيههم بالحصاة المقبوضة بالكفّ المنبوذة في الماء غاية تعظيم الأخذ وتحقير المأخوذ بعد الاخبار بتكبّرهم وتعظّمهم.
﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ * وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ
الْمَقْبُوحِينَ (٤٠) و (٤٢)﴾
ثمّ أمر الله سبحانه بالاعتبار بحالهم وبالغ في بيان عاقبتهم بقوله : ﴿فَانْظُرْ﴾ يا محمد بعين قلبك ، أو أيّها العاقل ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ ومآل كفرهم وطغيانهم في الدنيا ﴿وَجَعَلْناهُمْ﴾ بالحرمان من ألطافنا وإيكالهم إلى أنفسهم ﴿أَئِمَّةً﴾ وقدوة لأهل الضلال حيث إنّهم كانوا ﴿يَدْعُونَ﴾ النّاس إلى الكفر وتكذيب الرسل المؤدّي ﴿إِلَى النَّارِ﴾ وعذاب دار القرار ﴿وَيَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ ينزل عليهم العذاب الشديد ، وهم لا يستطيعون نصر أنفسهم و﴿لا﴾ هم ﴿يُنْصَرُونَ﴾ من قبل غيرهم بدفع العذاب
__________________
(١) تفسير القمى ٢ : ١٤٠ ، تفسير الصافي ٤ : ٩٠.
(٢) تفسير الرازي ٢٤ : ٢٥٣.
(٣) أي البحر الأحمر.