ثمّ ردّ الله عليهم بقوله : ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ﴾ ولم نجعل مقرّهم ومسكنهم ﴿حَرَماً آمِناً﴾ وأرضا مأمونة من القتال وتعدّيات العرب لحرمتها ، ومع ذلك يحمل إلى ذلك الحرم و﴿يُجْبى إِلَيْهِ﴾ ويجمع فيه ﴿ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ومنافع جميع النباتات من الفواكه والحبوب والخضراوات ، بحيث لا يرى شرقيها وغربيها ألا وهو فيه ، هؤلاء يرزقون منها ﴿رِزْقاً﴾ كائنا ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾ لا من لدن أحد من الخلق ، فاذا كان هذا حالهم وهم عبدة الأصنام ، فكيف نعرّضهم للتخّوف والتخطّف إذا صاروا موحدين ؟ ﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ جهلة ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ أنّ هذه النّعم من قبلنا ، وإلّا لم يخافوا غيرنا ، ولا يعلمون أنّ إلههم الله ، وإلا لم يعبدوا غيره ، أو لا يعلمون أنّ ما قالوا ليس بعذر مقبول ، وإلّا لم يعتذروا به.
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ
قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ * وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها
رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٨) و (٥٩)﴾
ثمّ إنّه تعالى بعد بيان أنّ الايمان لا يوجب زوال نعمهم بل موجب لدوامها لهم ، بيّن أنّ الإصرار على الكفر وتكذيب الرسل ، هو الموجب لزوال النّعم بقوله : ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنا﴾ بالعذاب ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾ وبلدة ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَها﴾ وأطغت النّعم الكثيرة أهلها فخرّبنا بعد إهلاكهم ديارهم ﴿فَتِلْكَ﴾ المساكن الخربة التي ترونها في أسفاركم إلى الشام ذهابا وإيابا ﴿مَساكِنُهُمْ﴾ التي كانوا يسكنونها ، فانّها من شدّة خرابها ﴿لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ ووراء إهلاكهم ﴿إِلَّا قَلِيلاً﴾ من الناس أو من الزمان ، حيث إنّها لا يسكنها إلّا المارّة يوما أو بعض يوم ، كما عن ابن عباس (١) . أو من أعقابهم ، فانّهم لم يبقوا فيها إلّا قليلا من شؤم كفرهم ومعاصيهم (٢) ، وقليلا من الحيوانات كالهام والبوم (٣)﴿وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ﴾ منهم لتلك المساكن ، إذ لم يخلفهم أحد من أعقابهم.
ثمّ لمّا بيّن سبحانه إهلاك كثير من القرى لبطر أهلها وكفرهم ، بيّن أنّ نزول العذاب لا يكون إلّا بعد إتمام الحجّة على المعذبين ، وأنّ علّة عدم نزوله على الكفّار الذين كانوا قبل بعثة النبي صلىاللهعليهوآله مع بطرهم وشدّة كفرهم وعنادهم ، عدم بعث الرسول فيهم بقوله : ﴿وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى﴾ التي في الأرض بسبب كفرهم وطغيانهم ﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها﴾ وعظيمها التي تكون تلك القرى أتباعها
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٥ : ٥.
(٢) تفسير الرازي ٢٥ : ٥ ، تفسير روح البيان ٦ : ٤١٨.
(٣) تفسير روح البيان ٦ : ٤١٨ ، والهام : طائر صغير من طيور الليل يألف المقابر.