ويسكنها الأشراف الذين هم مرجع أهالي غيرها ﴿رَسُولاً﴾ تتمّ به الحجّة عليهم ، ويقطع به معذرتهم بأن يدعوهم إلى توحيدنا و﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا﴾ وحججنا الدالة على العقائد الحقّة ، والوعد والوعيد ، والترغيب في الطاعة ، والترهيب عن الكفر والمعصية ، حتى لا يقولوا : ﴿رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(١) فلذا لم نهلك الكفّار الذين كانوا قبل البعثة.
ثمّ نبّه سبحانه على علّة عدم تعذيب الكفّار بعد البعثة بقوله : ﴿وَما كُنَّا﴾ وليس من دأبنا أن نكون ﴿مُهْلِكِي الْقُرى﴾ الكافرة بعد بعثة الرسول وإلزام الحجّة ﴿إِلَّا وَأَهْلُها﴾ وسكّانها ﴿ظالِمُونَ﴾ على أنفسهم بتكذيب الرسول والآيات ، وليس أهل مكّة كذلك ؛ لأنّ بعضهم آمنوا وبعضهم يرجى منهم الإيمان.
﴿وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى
أَ فَلا تَعْقِلُونَ * أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ
الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦٠) و (٦١)﴾
ثمّ إنّه تعالى أجاب عن عذرهم ثالثا بعد الجوابين السابقين بقوله : ﴿وَما أُوتِيتُمْ﴾ أيّها المعتذرون وأعطيتم ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من التمكّن في الحرم وسعة الرزق وسائر النّعم ﴿فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ وانتفاع قليل في مدّة العمر فيها ﴿وَزِينَتُها﴾ التي تتزيّنون بها من الألبسة الفاخرة والمراكب الفارهة في أيام يسيرة ، ثمّ تزول وتفنى بسرعة ﴿وَما عِنْدَ اللهِ﴾ من الأجر الجزيل الاخروي على الايمان به وطاعته وعبادته ﴿خَيْرٌ﴾ لكم من جميع الدنيا وما فيها ، لخلوصه من شوائب المكاره والآلام ﴿وَأَبْقى﴾ وأدوم لكونه أبديا ﴿أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾ ولا تدركون هذا الأمر الواضح ، ولا تتفكّرون فيه ، فانّكم إذا عقلتم ذلك لا ترضون باستبدال الأدنى بالذي هو خير ، وما هو في معرض الزوال بالذي لا زوال له.
ثمّ بيّن عدم تساوي النّعم الدنيوية المتّصلة بالنّعم الاخروية والمتّصلة بالعذاب بقوله : ﴿أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ﴾ على إيمانه وطاعته ﴿وَعْداً﴾ يكون موعوده ﴿حَسَناً﴾ كالجنّة ونعيمها ﴿فَهُوَ لاقِيهِ﴾ ومصيبه لا محالة ، لامتناع الخلف في وعدنا ﴿كَمَنْ مَتَّعْناهُ﴾ ونفعناه ﴿مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ وانتفاع أيّام العمر السريع الانقطاع ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ يكون ﴿مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ في محضر عدلنا للحساب وجزاء الأعمال ، فيحكم عليه باستحقاقه العذاب الشديد الأبدي ، لا يمكن التساوي ببديهة
__________________
(١) القصص : ٢٨ / ٤٧.