ثمّ إنّ قارون بعد استماع تلك المواعظ ازداد في الكفر والطغيان و﴿قالَ﴾ في جواب الناصح : المال الذي اجتمع لي ﴿إِنَّما أُوتِيتُهُ﴾ ووجدته حال كوني ﴿عَلى عِلْمٍ﴾ كثير كائن ﴿عِنْدِي﴾ بالتوراة ، فانّه كان أعلم بني إسرائيل بها ، أو بالكسب والتجارة والرزاعة.
وقيل : إنّ المراد بعلمه علم الكيمياء ، فانّه انزل على موسى من السماء ، فعلم قارون ثلثه ويوشع ثلثه ، وكالب بن يوحنا ثلثه فخدعهما قارون حتى انضاف علمهما إلى علمه ، فكان يأخذ الرّصاص فيجعله فضّة ، ويأخذ النّحاس فيجعله ذهبا (١) .
وقيل : علم موسى اخته الكيمياء ، ثمّ هي علّمته قارون (٢) .
وقيل : إن المعنى إن الله أعطاني هذا المال مع كونه عالما بي وبأحوالي ، فلو لم يكن ذلك مصلحة لما أعطاني (٣) ، ومعنى قوله : ﴿عِنْدِي﴾ أنّ الأمر عندي وفي اعتقادي كذلك.
ثمّ ردّه الله بقوله : ﴿أَ وَلَمْ يَعْلَمْ﴾ قارون مع ادّعائه وفور علمه ، أو أولم يكن في علمه أو فيما عنده من العلم ﴿أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ﴾ بالعذاب ﴿مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ﴾ الكافرة الطاغية ﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً﴾ من جهة العدّة والعدد ﴿وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾ للمال كنمرود وأضرابه ، أو أكثر جمعا للعلم والعبادة حتى لا يغتّر بما اغترّ به من القوّة وكثرة المال أو العلم ﴿وَلا يُسْئَلُ﴾ حين نزول العذاب ﴿عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ والعاصون لعلم الله بحدود ذنوبهم من حيث الكثرة والعظمة ، فلا يحتاج إلى السؤال عنهم حتى يشتغلوا بالاعتذار ، وإن يسألهم في بعض المواقف توبيخا وتقريعا في القيامة ﴿فَخَرَجَ﴾ قارون يوما من منزله متجبّرا ﴿عَلى قَوْمِهِ﴾ وهو مستغرق ﴿فِي زِينَتِهِ﴾ الظاهرة.
قيل : خرج يوم السبت الذي كان آخر يوم من عمره على بغلة شهباء مسرجة بسرج من ذهب ، وعليه قطيفة ارغوانية (٤) ، ومعه أربعة آلاف فارس على زيّه ، وثلاثمائة جارية بيض عليهن الحليّ والثياب الحمر على البغال الشّهب (٥) ، فلمّا رآه الناس في تلك الزّينة ﴿قالَ﴾ الجهال ﴿الَّذِينَ يُرِيدُونَ﴾ ويطلبون ﴿الْحَياةَ الدُّنْيا﴾ ويرغبون في متاعها وزينتها من بني إسرائيل : ﴿يا لَيْتَ﴾ كان ﴿لَنا﴾ واوتينا ﴿مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ﴾ من المال والجاه والخدم ﴿إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ ونصيب وافر من الدنيا ﴿وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ بالدين وبأحوال الآخرة وفوائد الزّهد في الدنيا للمتمنّين ﴿وَيْلَكُمْ﴾ أيّها الطالبون للدنيا ﴿ثَوابُ اللهِ﴾ وأجره العظيم في الآخرة من الجنّة ونعمها الدائمة
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٥ : ١٦ ، تفسير روح البيان ٦ : ٤٣٢.
(٢) تفسير روح البيان ٦ : ٤٣٢.
(٣) تفسير الرازي ٢٥ : ١٦.
(٤) في تفسير روح البيان : عليه الارجوان ، يعني قطيفة ارغواني.
(٥) تفسير الرازي ٢٥ : ١٧ ، تفسير روح البيان ٦ : ٤٣٣.