الوحي في قليل ولا كثير ، وليس منكرها كافراً ، ولا فاسقاً ، ولا مغتمزا في دينه ، وإنما هي : قراءات مصدرها اللهجات واختلافها ... فأنت ترى أن هذه القراءات إنما هي مظهر من مظاهر اختلاف اللهجات » (١).
ولقد جهد المحققون منذ القرن الأول للهجرة حتى عهد ابن مجاهد ( ت : ٣٢٤ ه ) وهو موحد القراءات أو مسبعها إن صح التعبير ، في دراسة ظواهر القراءات القرآنية ، متواترها ، ومشهورها ، وشاذها ، فارجعوا جزءاً من الاختلاف في القراءة إلى مظهر من مظاهر اللهجات العربية المختلفة ، وعادوا بجملة من الألفاظ إلى استعمال جملة من القبائل ، ذلك مما يؤيد وجهة النظر في عامل اللهجات ، والاستئناس به عاملاً مساعداً في تعدد القراءات ، وللسبب ذاته فإن تلاشى اللهجات وتوحيدها بلهجة قريش ، قد ساعد أيضا على تلاشي واضمحلال كثير من جزئيات هذه القراءات وعدم إساغتها منذ عهد مبكر ، بل إن توحيد القرآن للغة العرب على لغة قريش ، وقصرهم عليها كان اساساً جوهريا في إذابة ما عداها من لغات ، مما أزاح تراكما لغوياً يبتعد عن الفصحى ابتعاداً كلياً ، فلا تجد بعد ذلك عنعنة تميم ، ولا عجرمية قيس ، ولا كشكشة أسد ، ولا ثلثلة نهراء ، ولا كسكسة ربيعة ، ولا إمالة أسد وقيس ، ولا طمطمانية حمير.
وفي ضوء ما تقدم يمكننا أن نخرج برأي جديد نخالف فيه من سبقنا إلى الموضوع ، فنعتبر كلاً من شكل المصحف ، وطريق الرواية إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتعدد اللهجات العربية ، قضايا ذات أهمية متكافئة باعتبارها مصادر من مصادر القراءات ، كلاً لا يتجزأ ، وإلا فهي ـ على الأقل ـ أسباب عريضة في نشوء القراءات ومناهج اختلافها.
وللتدليل على صحة هذا لا بد لنا من الوقوف عند أدلته وقفة مقنعة ، إن لم تكن دامغة.
لا شك أن اختلاف مصاحف الأمصار في الرسم ، وما نشأ عنه من اختلاف أهل المدينة وأهل الكوفة ، وأهل البصرة ، وأهل الشام في القراءة ،
__________________
(١) طه حسين ، في الأدب الجاهلي : ٩٥ ـ ٩٦.