ما كان يبدو عل محمد في ساعات الوحي على هذا النحو الخاطئ من الناحية العلمية أفحش الخطأ . فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مرَّ به أثناءها ، بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسياناً تاماً ، ولا يذكر شيئاً مما صنع أو حل به خلالها ، لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام العطل . هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم ، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم العربي أثناء الوحي ، بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبهاً لا عهد للناس به ، يذكر بدقة ـ غاية الدقة ـ ما يتلقاه ، وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه ، ثم نزول الوحي لم يكن يقترن حتماً بالغيبوبة الحسية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه ، بل كثيراً ما يحدث والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في تمام يقظته العادية » (١) .
وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نرصد في ظاهرة الوحي عملية إرسال واستقبال بوقت واحد ، إرسال بوساطة الملك المؤتمن ، واستقبال من قبل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يتم ذلك في حالة إدراك متماسكة ، يسيطر فيها الوعي والشعور والإحساس ، كما لو كان أمراً عادياً في يقظة حقيقية ، قبل الوحي ، وأثناء الوحي ، وبعد الوحي ، مهما صاحب عملية الوحي من شدة ووطأة ومفاجئة . فالوحي حقيقة خارجية مستقلة عن كيان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم النفسي ، ولكنها لا تغير ذلك الواقع النفسي ، بل تزيده جلاء وفطنة وذاكرة ، ويمثل فيها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم دور المتلقي الواعي من جهة ، ودور المبلغ الأمين من جهة أخرى ، لا يقدم ولا يؤخر ، ولا يغيّر ولا يقترح ، ولا يفتر ولا يتكاسل .
ولقد كان ذلك بحق :
« استقبالاً من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لحقيقة ذاتية مستقلة ، خارجة عن كيانه وشعوره الداخلي ، وبعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العملي » (٢) .
وليس من الضروري أن تتوافق هذه الظاهرة مع رغبات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الآنية ، أو تطلعاته النفسية الملحة ، فقد ينقطع عنه الوحي ، وقد يتقاطر
__________________
(١) ظ : بكري أمين ، التعبير الفني في القرآن : ١٩ .
(٢) المصدر السابق ، نفس الصفحة .