فقد ضاق الوقت وآن الرحيل فلابدّ ـ وهو الحكيم البليغ ـ أن يجمع كلّ معنىً ممكن مطلوب في كلّ حرف منه ملفوظ ، فلو نظرت إلى قوله صلىاللهعليهوآله : «ممّا فيه الناس» تراه يرى الفتن أمراً واقعاً ، وقد انغمس الناس فيها وصدق الرسول الأمين فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، فلو عطفت النظر إلى تاريخ الأُمة الإسلامية منذ رحيل رسولها وإلى يومنا هذا لرأيت ما يجعل الولدان شيباً ، ويكفيك يوم الحرّة ، وقتل مالك بن نويرة ، وقتل سبط الرسول ، وغصب ابنته نحلتها من أبيها ، ولو أحصيت ما صنعته الفتن في بلاد المسلمين من هتك الأعراض وسفك الدماء سواء التي بينهم أو فتن مغول وتتر الأمس واليوم ، لكانت النتيجة عالماً يضاهي عالمنا هذا أبحره دماً ، جباله جماجم ، سهوله اشلاءً مقطعة .
ثمّ لو أحصيت المذاهب وما فعله أصحابها من التلاعب بالدين لرأيت العجب العجاب ، فلو علمت أنّ عدد المذاهب والفِرق التي حصلت يتجاوز عددها عدد القرى والقصبات في بلاد المسلمين ، لكان يكفي لأن تقف وتتساءل كيف يترك رسول الرحمة أمّة مثل هذه وهو يرى رأي العين أنّها في فتن كهذه ـ ياليتها كانت كقطع الليل المظلم ـ بلا نصيحة وبلا مأمن ؟ ! ليس هذا فعل من يقول : «إنّما بعثت لأُتمّم مكارم الاخلاق» ، ومن هو مبعوث رحمة للعالمين ، كيف ولا يرضى بهذا ذو أدنى وجدان إنساني !
نعم ، لا يفعل هذا رسول الرحمة ، وقد تحمّل ما تحمّل في سبيل إنقاذها حتّى قال : «ما أُوذي نبي بمثل ما أُوذيت» (١) ، بل أشار إلى الركن
__________________
١٠ : ١٨٣ و ١٣ : ٢٧ ، مسند أحمد بن حنبل ٣ : ٤٨٨ ، المستدرك للحاكم ٣ : ٥٦ .
(١) المناقب لابن شهر آشوب ٣ : ٢٨٦ ، بحار الأنوار ٣٩ : ٥٦ ، كشف الغمّة ٣ : ٣٤٦ ، جواهر المطالب ٢ : ٣٢٠ .