أمر محقّق الوقوع ، كيف وامتناع إحاطة علم أمثالنا بآراء جميع أفراد الناس أو أهل العلم منهم ـ من حيث لا يشذّ مع تفرّقهم في أكناف الأرض ـ أظهر من أن يخفى على من له أدنى مسكة من العقل ، وإن كان الإمام عليه السلام معلوما بعينه وسمع منه الحكم فهو خبر مروي عنه وليس بإجماع ، فلا فائدة في انضمام أقوال الباقين معه ، ألا ترى إلى بطلان إجماع الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على خلافة أبي بكر ـ مع أنّ في كثرتهم بلغوا سبعين ألفا كما قيل ـ لتخلّف المعصوم عنهم مع ثلاثة نفر أو أربعة ، على أنّ تخلّفهم ـ بحسب الظاهر ـ إلى آخر الأمر ليس بمعلوم قطعا .
وكفى بهذا دليلا على بطلان الإجماع مطلقا ، خصوصا مع التقيّة التي يضطر فيها الإمام إلى موافقة القوم ، نعم إن بلغ العلم باتفاق الامّة أو الطائفة المحقّة على أمر حدّا لا يخفى على أحد أصلا ـ بحيث يصير من ضروريات الدين أو المذهب ، فيقول به كلّ من يقول بالدين أو المذهب كتحريم الخمر في الأوّل ، ومسح الرجلين في الثاني ـ فهو حجّة ، وهو الإجماع في الحقيقة ، ولكن يبعد خلوّ مثل ذلك الحكم عن نصّ ، ومع النص يستغنى عن الإجماع ، إلّا أن يقال : النصّ يقوى بالإجماع قوّة لا يقبل التأويل والمخالفة ، ولهذا يقدّم مثل هذا الإجماع على خبر الواحد ويردّ الخبر به ، وهذا واضح بحمد اللّه لمن له طبع مستقيم وذوق سليم .
ولكن الآن معاصرونا نائين وبمعزل عن فهمه لما اشربوا في قلوبهم من التقليد بجهالتهم ، فذرهم في غمرتهم يعمهون ، إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ جماعة من فقهائنا ولا سيّما المتأخّرين منهم فرجوا بين النصوص المعصوميّة وبين الاستنباطات الظنيّة من المتشابهات ، ومن قوانين وضعوها وأخذوا أكثرها من كتب العامّة وأصولهم ، تشحيذا للأذهان ، وترويجا للأفكار ولأمور أخر لعلّ اللّه يعذرهم فيها ، فاتسع بينهم دائرة الخلاف في الآراء ، ووسع لهم ميدان الأفكار والأهواء ، ولزمهم بسبب ذلك الدخول في عدّة أمور ورد النهي عنها بخصوصها في الشرع في ألفاظ لا تحصى من حيث لا يشعرون .
منها : القول بالاجتهاد والرأي في الشرائع كما يقوله العامّة مع تعسّر ضبط ذلك وتعسّر المعرفة بأهله .
ومنها : اتباع الظنّ والتعويل عليه في الحكم والفتوى .
ومنها : موت القول بموت قائله (١) ، لجواز رجوعه عنه بعد الموت لانكشاف الحق عليه .
إلى غير ذلك من الأمور التي ضاق بسببها الأمر على كثير من الناس كما نراه ونشاهده ،
______
( ١ ) ـ في « ر » : قائليه .