ولا يتأتّى شيء من ذلك على ما حققناه ، إذ ليس الإفتاء والحكم على ذلك التقدير إلّا بقول المعصوم .
وأمّا العمل فموسّع علينا بتوسيعهم عليهم السلام لنا أوسع ما بين السماء والأرض ، إذ يجوز لنا الأخذ بكلّ من الأقوال التي استندت إلى نصّ عنهم عليهم السلام على وجه التسليم ، حيث لا طريق لنا إلى الترجيح بالأصحّ من السند والأوفق بالكتاب والأبعد عن العامة كما عرفته ، وإن كان التوقّف والاحتياط مهما أمكن أولى .
وأما موت القول فلا يأتي على تحقيقنا ، لأنّ الفقيه إن أفتى بالحكم من النصّ فالنصّ لا يموت أبدا ، لأنّ قول أئمتنا عليهم السلام هو قول الرسول صلّى اللّه عليه وآله ، وقول الرسول صلّى اللّه عليه وآله قول اللّه جلّ جلاله ، وحلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة .
وإن أفتى بكيفيّة العمل في حال الاضطرار حيث لم يكن الحكم بيّنا واضحا بتعليم الأئمة عليهم السلام فتعليمهم في ذلك واحد لا يختلف فلا يختلف حكمه بالموت أيضا .
وإن أفتى على رأيه واجتهاده من غير رجوع إليهم عليهم السلام فهو باطل لا يجوز التعويل عليه في حياته أيضا كما لا يعوّل عليه بعد الموت ، فلا يختلف حكمه به أيضا ، وقد ظهر ممّا ذكرناه وبيّناه وجه تضييقهم الأمر من غير ضرورة ، وتوسيعهم أيضا من وجه من حيث لا إذن فيه ، وتمام تحقيق هذه المباحث تطلب من كتابنا الموسوم ب « الأصول الأصليّة » والحمد للّه .
قال بعض العلماء في سبب نشوء علم الكلام والاختلاف في الأحكام ما ملخّصه : أنّه لما أفضت الخلافة إلى أقوام لم يعلموا شيئا اضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم ، لاستفتائهم في جميع مجاري أحكامهم ، وكان العلماء يتدافعون الفتاوى وما يتعلّق بأحكام الخلق من أمر الدنيا ، وأقبلوا على اللّه بكنه اجتهادهم لعلم الآخرة ، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا ، واضطرّ الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات ، فرأى أهل تلك الأعصار عزّ العلماء وإقبال الولاة والحكّام عليهم مع إعراضهم عنهم ، فاشرأبّوا (١) لطلب العلم توصّلا (٢) إلى نيل العزّ ودرك الجاه من قبل الولاة ، فأكبّوا على علم الفتاوى ، وعرضوا أنفسهم على
______
( ١ ) ـ اشرأبّ للشيء اشرئبابا : مدّ عنقه لينظر ، وما في المتن كناية عن شدة الشوق لطلب العلم ، وفي « ح » : « فاشربوا » ، يقال :
واشرب في قلبه حبه ، أي خالطه ، ومنه قوله تعالى : « وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ » أراد حب العجل . انظر « الصحاح ـ شرب ـ ١ : ١٥٤ » .
( ٢ ) ـ في « ح » : توسلا .