وراءيتهم (١) صاروا آلهة لك من دون مولاك ، وافتضحت معه وهو يراك ، ووجدك تستهزئ به في مقدّس حضرته ، وتظهر خلاف ما تبطن بالاستخفاف بحرمته ، وإنّ اطّلاعهم عليك كان أهمّ لديك من اطّلاعه عليك .
وإن غرّك الشيطان وطبعك وهواك والحبّ لدنياك وخيّلوا إليك أنّك ما تقدر على الإنكار والمجاهدة ، فقل لهم أنّك تعلم خلاف ما يقولون من هذه المخادعة والمماكرة ، بدليل أنّ الذين كسروا حرمة ربّك وحرمة رسوله جدّك وحرمة أئمّتك المعظّمين بالمنكر الذي استخفّوا فيه بحرمة مالك الأوّلين والآخرين وحرمة الأنبياء والمرسلين وكلّ ولي للّه جلّ جلاله من العارفين ، وهتكوا به ناموس الدين لو كانوا قد كسروا به حرمتك وحرمة من يعزّ عليك من الآدميين ، مثاله :
أن يأخذوا عمامتك من رأسك بين الحاضرين ، أو أن يسلبوك شيئا قهرا من الذي بين (٢) يديك بالاستخفاف بك والتهوين ، ما كنت تتغافل عنهم ولا تصبر عليهم ولا تعتذر بأنّك ما كنت تقدر أن تنكر عليهم ، بل كنت تخاصمهم لعلّ بنفسك ومالك ، وتبالغ بغاية اجتهاد مقالك وفعالك في الانتقام منهم والإعراض عنهم والإنكار عليهم والتوصّل في الانتصار عليهم ، فعلى م لا يكون كسر حرمة مولاك فاطر الخلائق ومالك المغارب والمشارق مثل كسر حرمتك اليسيرة بالنسبة إلى حرمته العظيمة الكبيرة ؟ ! كيف رضيت أن تكون حرمتك أهم من حرمته وأنت غرس (٣) نعمته ومملوك ضعيف في قبضته ؟ ! وما الذي هوّن بهذه الجرأة الهائلة في مقدّس حضرته ؟ .
قال : واعلم أنّك تبتلى بمخالطتهم بأن يتفق لك أن تثق بعهودهم أكثر من وعود مولاك ، وأنت تعلم أنّهم يمكن أن يموتوا قبل إنجاز الوعود ، ويمكن أن يخلفوا ولا يفوا بالعهود ، ويمكن أن يحول بينك أنت وبين الانتفاع بوعودهم لو أنجزوها حوائل ، ويشغلك عنها شواغل ، فكيف رضي عقل العاقل وفضل الفاضل بترجيح وعد المملوك المعوّد للجنايات والخيانات ، وتضييع العهود والأمانات على وعد القادر لذاته ، الكريم لذاته ، الذي لا حائل بينه وبين سائر مقدوراته .
واعلم أنّك يا ولدي تبتلى مع مخالطتهم بأن يكون وعيدهم وتهديدهم أرجح من وعيد اللّه جلّ جلاله وتهديده ، وفي ذلك مخاطرة مع اللّه جلّ جلاله واستخفاف لأهوال وعيده .
قال رحمه اللّه : واعلم أنه يبتلى المخالط بالانس بهم أكثر من انسه بمولاه ومالك دنياه وأخراه وإنّما يحصل الانس بمخالطتهم بوجود العبد وحياته وعافيته ، وكلّ ذلك من رحمة مولاك
______
( ١ ) ـ في كشف المحجة : وداريتهم .
( ٢ ) ـ في « ر » في .
( ٣ ) ـ في كشف المحجة : غريق ، ولعله أنسب للسياق .