ومن نعمته ، فكيف جاز تقديم الانس بسواه عليه ، والعبد بين يديه وسيّده مطلع عليه .
واعلم أنّ الإنسان قد يبتلى أيضا بالمخالطة للعباد بحبّ مدحهم وكراهية ذمّهم ، ويشتغل بذلك عن حبّ مولاه وذمّه له ، وعن حبّه هو لمولاه وعن الخوف من ذمّه إذا عصاه .
وممّا يبتلى به المخالط لهم أنّ اللّه جلّ جلاله ورسوله صلّى اللّه عليه وآله ونوّابه الطاهرين يريدون منه العدل مع الذين هم له مخالطون أو معاشرون أو مصاحبون ، وأن يكون تقرّبه لهم ، وإقباله عليهم في قوله ، وإحسانه إليهم على ما يعرف أو يظهر له من قربهم من اللّه جلّ جلاله ورسوله عليه السلام وخاصّته ، وعلى قدر رغبتهم في طاعة اللّه جلّ جلاله ومراقبته .
وممّا يبتلى به المخالط لهم أنّه إذا كسروا حرمته بقول أو فعل من معاند ، أو من يفعل ذلك به على جهل ، أو يكون ـ كما قدّمناه ـ غضبه لما جرى بذلك أكثر من مخالفة اللّه جلّ جلاله ورسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قبل غضبه لنفسه ، ويعدل في غضبه ورضاه عدلا يسلمه من خطر حسابه وسؤاله .
وممّا يبتلى به في مخالطتهم أنّه يراد منه ألّا يشتغل بإقبالهم وثنائهم عليه من إقباله على اللّه جلّ جلاله وإقبال اللّه جلّ جلاله عليه ، ولا يعطيهم من قلبه إذا أحسنوا أكثر ولا مثل إحسان اللّه جلّ جلاله إليه ، بل يكون له شغل شاغل بإحسان اللّه جلّ جلاله في العاجل والآجل عن كلّ محسن مدّة إحسانه ، فإنّه إن دام على ذلك فهو مقدار أوقات قلائل .
وممّا يبتلى به في مخالطتهم ما قد صار عادة وسبيلا من الغيبة والنميمة والحسد والكبر والأخلاق الذميمة .
ولقد رأيت البلوى بمخالطتهم قد سرت إلى فساد العبادات حتى صارت زيارة أكثر الإخوان متعلّقة بنفع دنيوي ، أو دفع خطر دنيوي ، ويستبعد سلامتها من سقم النيّات ، وصارت عيادة المرضى على سبيل التوجّع والتألّم للمريض كأنّ اللّه جلّ جلاله قد ظلمه بالمرض ، وكان حقّ العائد لأهل الأمراض أن يهنئهم بتلك الأمراض ، لأنهم امّا مسيئون ويريد اللّه جلّ جلاله بمرضهم تكفير السّيئات ، أو ما هم من أهل الجنايات فيريد اللّه جلّ جلاله بأمراضهم من ارتفاع الدرجات ما لو اطّلعوا عليه وجدوه قد شرّفهم بتلك الحادثات ، وكان الحال عندهم مثل طبيب فصد (١) إنسانا وقت عافيته ليأمن بعد ذلك من سقم ، أو نقص يتجدّد بمهجته أو لحفظ ما هو أهم من المفتصد من سعادته ، أما يرضى ابن آدم أنّه توسّخ عقله وقلبه ولسان حاله بجنايات فعاله
______
( ١ ) ـ الفصد : شقّ العرق « لسان العرب ـ فصد ـ ٣ : ٣٣٦ » .