والوالدان والمشايخ والكهول والشبان ، ودخل كثير من الناس في الآبار واماكن الحوش ، وقني الوسخ ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون ، وكان الجماعة من الناس يجتمعون في الخانات ويغلقون عليهم الأبواب ، فتفتحها التتار إمّا بالكسر وامّا بالنار ، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة ، فيقتلونهم بالأسطحة ، حتّى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط ، ولم ينج منهم سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم ... وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً ، وبذلوا عليه أموالا جزيلة حتّى سلموا وسلمت أموالهم ، وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلّها ، كأنّها خراب ليس فيها إلاّ القليل من الناس ، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.
وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد ، كما قصّ اللّه تعالى ، علينا ذلك في كتابه العزيز ، حيث يقول : ( وقضَينا إلى بَني إسرائيلَ في الكتابَ لَتُفْسِدُُنَّ في الأرضِ مَرَّتَينِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كبيراً * فإذا جاءَ وَعدُ أولاهُما بَعَثْنا عَليكُم عَباداً لَنا أُولي بَأْس شَديد فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وَكَانَ وَعْداً مَفعولا ) (١).
وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء ، وأسر جماعة من أولاد الأنبياء ، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء ، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء.
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة. فقيل ثمانمائة ألف ، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف ، وقيل بلغت القتلى ألفي نفس ، فإنّا للّه وانّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلىّ العظيم ، وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم ، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً.
ولما انقضى الأمر المقدور وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على
__________________
١ ـ سورة الإسراء : الآية ٤ ـ ٥.