ذلك في همه وحزنه ، فأين الشام وأين فارس ومئات الأميال تفصل بينهما . . ويطرق الأب الحزين برأسه إلى الأرض ويستسلم مع زوجته للقدر ، وربما توسلا إلى النار التي يقدسانها أن ترجع إليهما ولدهما الهارب ، ولكن دون جدوى . وهكذا ظل يندب حظه التعس .
أما سلمان ، فظل يتابع سيره حتى إذا بانت له مشارف الشام حرك لسانه بآيات الشكر لله سبحانه الذي أنقذه من النار وتفاهاتها وحماقات أهلها لينعم بين ظلال الرحمة في مهد الأنبياء وأرض الرسالات . في الشام ، التي هي « صفوة الله من بلاده وإليها يجتبي صفوته من عباده » على حد تعبير النبي صلىاللهعليهوسلم (١) .
وبعد قليل من الزمن ، حط الركب الفارسي رحاله ليستريح من وعثاء السفر المضني الطويل ، ولينصرف بعد ذلك كل منهم إلى شؤونه ، عدا سلمان الذي لم يستقر به مكانه بعد ، فهو لم يصل إلى ما يريد ! إنه يطلب العالم الذي يعطيه أصول النصرانية التي جاء بها عيسى عليه السلام عن الله سبحانه وتعالى ، فاندفع يسأل هذا وذاك من أهل الشام عن رجل الدين الذي يولونه ثقتهم ، ويأخذون عنه معالم دينهم ، فأرشدوه إلى الأسقف . فسألهم عن مكان إقامته . ؟
قالوا : هو مقيم في صومعته على رأس جبل ، ودلوه عليه .
كانت الصومعة في قمة جبل يشرف على الشام وقد استدارت حولها غابة من السنديان والصنوبر ، يخيل للناظر إليها من بعيد أنها جزيرة صغيرة وسط بحيرة خضراء .
قصد سلمان تلك الصومعة والفرح يغمر قلبه ، فلما وصل إليها تكلم بكلمات (٢) تركت الأسقف ينفتل من عبادته لينظر من هو المتكلم . وكان
__________________
(١) : راجع معجم البلدان ٣ / ٣١٤ .
(٢) : يروى أنه قال له : اشهد أن لا إلاه إلا الله وأن عيسى روح الله وأن محمداً حبيب الله ـ كما سيأتي في احدى الروايات .