الأسقف شيخاً طاعناً في السن مربوع القامة ، في ظهره جنأ (١) كث اللحية أبيضها ، ذو عينين غارقتين تهدل فوقهما حاجبان انعقفا حتى اتصلا بصدغيه ، ترتسم على وجهه سيماء الصالحين . . . تطلع سلمان إليه فأدرك فيه ملامح من سيرة المسيح ( ع ) فانتابته حالة من الذهول أطرق معها إلى الأرض ، إلا أن كلمات الأسقف هزته حيث اندفع نحوه متسائلاً من أنت ؟ وماذا تريد ؟
فرفع رأسه وقال : أنا رجل من أهل جي جئت أطلب العمل وأتعلم العلم ، فضمني إليك أخدمك وأصحبك ، وتعلمني شيئاً مما علمك الله ! ؟
قال الأسقف : نعم ، إصعد إلي .
صعد سلمان إليه ليبقى إلى جانبه يخدمه ويتعلم منه ، وكان الغالب في مأكله : الخل والزيت ، والحبوب ، جرايةً تجري له ، يقول سلمان : « فأجرى علي مثل ما كان يجرى عليه . . . » وبدأ الأسقف يعلمه شريعة الله التي أنزلها على المسيح ويقرأ عليه صحائف من الإنجيل كان قد احتفظ بها ، ويطلعه على بعض الأسرار الإلهية التي تناهت إليه من حواريي عيسى عليه السلام ، وقد وجد في سلمان الرجل القوي الأمين الذي يمكن أن يدفع إليه أمانته ووجد سلمان فيه الأب المشفق والعالم الروحاني الذي يوقفه على غامض العلم ويطلعه على شرائع الأنبياء .
ومرت الأيام تتوالى مسرعةً ، وانطوت سنين عديدة كان الأسقف خلالها يتقدم نحو أرذل العمر ، وفي ذات يوم اشتكى علةً في جسده سرعان ما ألزمته سريره ، وأدرك سلمان أنها الشيخوخة التي لا ينفع معها دواء ، فظل دائباً في خدمته والعناية به ليله ونهاره ، حتى إذا قوضت أيامه ودارت في صدره حشرجات الموت ، علم سلمان أن صاحبه يحتضر ، وأنه مفارق هذه الدنيا عن قريب ، فجلس عند رأسه يبكي .
__________________
(١) : الإنحناء .