وكان تعلق الأسقف به شديداً لما لمسه فيه من الخصال الحميدة النادرة ، فكان يؤلمه أن يراه حزيناً أو مفكراً في أمرٍ يشغل باله ، وحانت منه إلتفاتة خاطفة ، فرأى سلمان يكفكف دموعه ، وآلمه ما رأى ، فالتفت إليه قائلاً :
« ما يبكيك يا ولدي . . ؟ »
قال سلمان ـ وهو يردُّ غصَّته ـ : « خرجت من بلادي أطلب الخير ، فرزقني الله صحبتك فنزل بك الموت ولا أدرى أين أذهب . . ؟ »
وهنا أطرق الراوي إطراقةً طويلة وفكر في أن يقف عند هذا الحد ولا يكمل روايته ، والسر في ذلك هو أن محدثيه كانوا كثراً وكلهم يروي عن سلمان سيرته كما جاءت على لسانه ، لكن ما يروونه فيه إختلاف كبير بالنسبة للشكل والصياغة ، وإن كان متقارباً في أصل المضمون ، فالروايات كلها متفقة على أن سلمان إنتقل من راهب إلى راهب ومن دير إلى دير ، وجاب البلاد طولاً وعرضاً في سبيل الوقوف على أصول الدين الذي يمكن الركون إليه . ولكن يبقى العرض للكيفية التي تم بها ذلك مختلفاً غاية الإختلاف .
قال الراوي : وعلى هذا فلا يمكنني إختيار واحدةٍ من تلك الروايات والإكتفاء بسردها لكم ، لاحتياجها إلى ما في الروايات الأخرى . وافتقار تلك الروايات لها مما يجعل بعضها يكمل بعضاً . ، فالأفضل إذن أن تصاغ القصة من مجموع تلك الروايات في حلةٍ جديدة لائقةٍ بسلمان ومكانته ، تنسج خيوطها من سيرته ذاتها وليست بنشازٍ عنها ، لأنها كلها بلسانه رضي الله عنه .
ثم استطرد في سرد الرواية قائلاً :
«
فقال الأسقف وهو يعاني سكرات الموت : يا بني ، لقد ترك الناس دينهم ، ولا أعلم أحداً يقول بمقالتي إلا راهباً في إنطاكية ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، وادفع إليه هذا اللوح . وناولني لوحاً . ، ثم مات الأسقف . ولم يكشف لنا سلمان شيئاً عن سر ذلك اللوح ، لكن من المعتقد أنه أثر كريم بقي من المسيح