غير أنّك عرفت في بحث التعارض من الحلقة السابقة (١) أنّ الدليل الحاكم إنّما يكون حاكما إذا كان ناظرا إلى الدليل المحكوم ، ودليل الحجّيّة لم يثبت كونه ناظرا إلى أحكام القطع الموضوعي ، وإنّما المعلوم فيه نظره الى تنجيز الأحكام الواقعيّة المشكوكة خاصّة إذا كان دليل الحجّيّة للأمارة هو السيرة العقلائيّة ؛ إذ لا انتشار للقطع الموضوعي في حياة العقلاء لكي تكون سيرتهم على حجّيّة الأمارة ناظرة إلى القطع الموضوعي والطريقي معا.
والصحيح : هو أنّ الأمارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي وذلك لأمرين :
الأوّل : أنّ ما ذكره الميرزا من حكومة دليل حجّيّة الأمارة على دليل الحكم الشرعي المأخوذ فيه القطع موضوعا غير تامّ ؛ لأنّ الحكومة بين شيئين يشترط فيها النظر من الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ، كما تقدّم ذلك في مبحث التعارض من الحلقة الثانية عند البحث في الحكومة والورود.
كما في « الطواف بالبيت صلاة » الحاكم على « لا صلاة إلا بطهور » فإنّه ناظر إلى آثار الصلاة في الطهارة ويوسّعها لتعمّ الطواف أيضا.
وكما في « لا ربا بين الوالد وولده » الحاكم على « الربا حرام » حيث إنّه ينظر إلى موضوعه ويخرج هذا الفرد منه ادّعاء والتالي يخرج عن الحرمة.
وأمّا هنا فإنّ دليل الحجّيّة ليس ناظرا إلى دليل الحكم الشرعي ؛ لأنّ حكومته عليه تستدعي كونه ناظرا إلى ترتيب آثار القطع الطريقي وآثار القطع الموضوعي معا ، وهذا غير محرز. إذ المتيقّن من دليل الحجّيّة هو جعلها منجّزة ومعذّرة فقط ، أي ترتيب آثار القطع الطريقي على الأمارة ، وأمّا آثار القطع الموضوعي فلا يحرز نظره إليها ؛ لأنّ ترتيب آثار القطع الموضوعي على الأمارة إنّما يتمّ لو كانت الأمارة فردا ومصداقا حقيقيّا من أفراد العلم ، وهذا لا يتمّ إلا بالورود وهذا لا يقول به الميرزا.
الثاني : أنّ دليل حجّيّة الأمارة إنّما هو السيرة العقلائيّة ؛ لأنّ مهمّ الأمارات هو الظهور وخبر الثقة ، ودليل حجّيّتها السيرة العقلائيّة كما اعترف بذلك الميرزا نفسه ، والأخبار الدالّة على حجّيّتهما ليس إلا أدلّة إرشاديّة إلى ما هو المرتكز عند العقلاء ، فهي إمضائيّة فقط.
__________________
(١) تحت عنوان : ( الحكم الأوّل : قاعدة الجمع العرفي ).