وهذا البيان كما يبطل الاتّجاه الأوّل يبرهن على صحّة الاتّجاه الثاني إجمالا ، وتوضيح الكلام في تفصيلات الاتّجاه الثاني يقع في عدّة مراحل :
فهذا البرهان يبرهن على عدم صحّة ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ التغاير بين الحروف والأسماء عارض وطارئ وليس جوهريّا ؛ لأنّنا أثبتنا أنّ التغاير ذاتي بينهما. وهذا يعني أنّ الاتّجاه الثاني الذي ذهب إليه المشهور هو الصحيح ولكن بالجملة. والمقصود من قيد ( بالجملة ) أنّ التغاير الذاتي الذي ذكره المشهور صحيح ، إلا أنّ بيان هذا التغاير الذاتي وما هي حقيقة الحروف واختلافها جوهريّا عن الأسماء؟ فقد ذكر المشهور عدّة بيانات لذلك كلّها غير صحيحة (١).
والصحيح يحتاج إلى بيان عدّة مراحل فنقول :
المرحلة الأولى : أنّا حين نواجه نارا في الموقد مثلا ننتزع في الذهن عدّة مفاهيم :
الأوّل : مفهوم بإزاء النار.
والثاني : مفهوم بإزاء الموقد.
__________________
(١) ولا بأس بالإشارة إليها مختصرا قبل البدء في بيان الوجه الصحيح فنقول :
ذهب المحقّق النّائينيّ إلى أنّ المعاني الحرفيّة إيجاديّة بينما المعاني الاسميّة إخطاريّة. وفسّر ذلك بعض مقرّري بحثه بأنّ الحرف يوجد معناه في مرحلة تقرّره ووجوده ، بينما الاسم لا يوجد معناه ، بل معناه موجود وإنّما يخطره في الذهن فقط.
وذهب : المحقّق العراقي إلى أنّ المعاني الاسميّة تدلّ على الجواهر وبعض الأعراض ، بينما المعاني الحرفيّة تدلّ على الأعراض الإضافيّة التي تحتاج إلى موضوعين وطرفين ، حيث قسّم الوجود إلى جوهر وعرض ، والعرض إلى ما يحتاج إلى موضوع واحد وما يحتاج إلى موضوعين ، وأنّ العرض مع موضوعه لا بدّ من رابط بينهما ، وهذا الرابط هو المعاني الحرفيّة.
وذهب السيّد الخوئي إلى أنّ المعاني الحرفيّة معان تحصّصيّة بخلاف المعاني الاسميّة ، فالمعاني الحرفيّة تحصّص المفهوم القابل للتحصيص وتضيّقه بحصّة معيّنة كقولنا : ( زيد في الدار ) فإنّه يدلّ على حصّة خاصّة من الظرفيّة لا على مفهوم الظرفيّة بما هو هو ، بخلاف المعاني الاسميّة فإنّها تدلّ على المفهوم بما هو هو من دون تحصيص ، فنقول مثلا : الظرفيّة واسعة.
وذهب المحقّق الأصفهاني إلى أنّ المعاني الحرفيّة موضوعة لوجود الرابط الخارجي ، بينما المعاني الاسميّة موضوعة لوجود الرابط الذهني. ومقصوده من ذلك : أنّ المعاني الحرفيّة موضوعة للنسبة الاستهلاكيّة سواء وجدت في الذهن أو في الخارج بخلاف المعاني الاسميّة.