الصعب أن يتصورها القارئ الكريم. فلقد تطاحنت الأحزاب منذ الفتنة الأولى إلى سقوط الدولة الأموية ، لا يكاد المسلمون يخرجون من فتنة إلا ويدخلون في فتنة أعظم منها ، ومن لم يصدق فليقرأ تاريخ الطبري وليتحسر على تعطل الفتوح وضياع الفرصة التاريخية بسبب الانكفاء على الذات والصراعات القبلية والإقليمية. فالذي تقتضيه الأحوال والطبيعة البشرية ان يمتد الصراع إلى ساحة الفكر ولا يقف عند ساحة القتال ، وأن تتضارب الروايات وتكثر الحكايات والشائعات عن الواقعة الواحدة ، ويختلط الحابل بالنابل والصدق بالكذب ، في أثناء تلك الفتن وبعد خمودها. فما حاجة سيف مثلا ، كائنة ما كانت دوافعه وأهواؤه ، إلى اختلاق الحكايات والحوادث ، مع انه يكفيه أن يدلي بدلوه في أحد الآبار الكثيرة ليجد ما يريد وما حاجته إلى اختراع الرواة إذا كان يكفيه أن يصغي باذنيه إلى جيرانه ؟
والتاريخ الحاضر خير شاهد على صحة هذا التفسير الذي تقبله النفوس والعقول ، فلا يكاد يخلو كتاب من التحيز الشخصي والأسري والحزبي والقبلي والفكري والبلداني ، المقصود وغير المقصود.
وهذا الأمر اكثر وضوحاً في المصادر الأولية ـ مثل مذكرات السياسيين وأقاربهم وما يكتبه بعض المبتدئين عن تاريخ الأسرة أو الاقليم أو القبيلة ـ منه في كتب التاريخ المحررة. ومع ذلك فهو موجود في هذه أيضاً ، وإذا شئت فاقراً كتابا لمؤرخ بريطاني عن الحرب العالمية الثانية ، ثم انظر ما يقوله نظيره الأمريكي والفرنسي والروسي ، أو اقرأ ما كتب عن هزيمة حزيران أو حرب رمضان او حرب الخليج ، فسوف تجد التحيز القومي والبلداني والعقائدي واضحاً جداً.