فلما وصلت إلى المدينة المنورة صرت إلى مسجد « نافع » فإذا هو لا تطاق القراءة عليه من كثرتهم ، وإنما يقرئ ثلاثين ، فجلست خلف الحلقة ، وقلت لإنسان من أكبر الناس عند « نافع »؟ فقال لي : كبير الجعفريين ، فقلت : كيف به ، قال : أنا أجيء معك إلى منزله ، وجئنا إلى منزله فخرج شيخ ، فقلت : أنا من « مصر » جئت لأقرأ على « نافع » فلم أصل إليه وأنا أريد أن تكون الوسيلة إليه ، فقال : نعم وكرامة ، وأخذ طيلسانه ومضى معنا إلى « نافع » وكان لنافع كنيتان : « أبو رويم ، وأبو عبد الله » فبأيّهما نودي أجاب ، فقال له الجعفري : هذا وسيلتي إليك جاء من « مصر » ليس معه تجارة ، وإنما جاء للقراءة خاصّة ، فقال : أي « نافع » : ترى ما ألقى من أبناء المهاجرين والأنصار ، فقال صديقه الجعفري : تحتال له ، فقال لي « نافع » أ يمكنك أن تبيت في المسجد؟ قلت : نعم ، فبتّ في المسجد ، فلما أن كان الفجر جاء « نافع » فقال : ما فعل الغريب؟ فقلت : ها أنا رحمك الله ، قال : أنت أولى بالقراءة.
قال أي « ورش » : وكنت مع ذلك حسن الصوت مدّادا به ، فاستفتحت فملأ صوتي مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقرأت ثلاثين آية ، فأشار بيده أن اسكت ، فسكتّ ، فقام إليه شابّ من الحلقة فقال : يا معلّم أعزّك الله نحن معك وهذا رجل غريب ، وإنما رحل للقراءة عليك وقد جعلت له عشرا ، واقتصرت على عشرين ، أي تنازلت له عن عشر آيات من المقدار المخصّص لي وسأكتفي بقراءة عشرين آية فقط. ولعلّ السبب في ذلك هو حسن قراءة « ورش » وجمال صوته.
يقول « ورش » قرأت عشر آيات فقام فتى آخر فقال كقول صاحبه ، فقرأت عشر آيات ، وقعدت حتى لم يبق أحد ممن له قراءة.
فقال « نافع » : « اقرأ فأقرأني خمسين آية ، فما زلت أقرأ عليه خمسين في خمسين حتى قرأت عليه ختمتان قبل أن أخرج من المدينة المنورة » ا هـ (١).
__________________
(١) انظر : معرفة القراء الكبار للذهبي ج ١ ص ١٥٤ ـ ١٥٥.