ما يوافق المقاصد الحيوية المادية فالفضائل والرذائل المعنوية كالصدق والفتوة والمروة ونشر الرحمة والرأفة والإحسان وأمثال ذلك لا اعتبار لها إلا بمقدار ما درت بها منافع المجتمع ، ولم يتضرروا بها لو لم تعتبر ، وأما فيما ينافي منافع القوم فلا موجب للعمل بها بل الموجب لخلافها.
ولذلك ترى المؤتمرات الرسمية وأولياء الأمور في المجتمعات لا يرون لأنفسهم وظيفة إلا التحفظ على منافع المجتمع الحيوية ، وما يعقد فيها من العهود والمواثيق إنما يعقد على حسب مصلحة الوقت ، ويوزن بزنة ما عليه الدولة المعاهدة من القوة والعدة ، وما عليه المعاهد المقابل من القوة والعدة في نفسه وبما يضاف إليه من سائر المقتضيات المنضمة إليه المعينة له.
فما كان التوازن على حالة التعادل كان العهد على حاله ، وإذا مالت كفة الميزان للدولة المعاهدة على خصمه أبطلت اعتبار العهد بأعذار مصطنعة واتهامات مفتعلة للتوسل إلى نقضه ، وإنما يراد بتقديم الأعذار أن يتحفظ على ظاهر القوانين العالمية التي لا عقبى لنقضها والتخلف عنها إلا ما يهدد حياة المجتمع أو بعض منافع حياتهم ، ولو لا ذلك لم يكن ما يمنع النقض ولو من غير عذر إذا اقتضته منافع المجتمع القوى الحيوية.
وأما الكذب أو الخيانة أو التعدي لما يتخذه الغير منافع لنفسه فليس مما يمنع مجتمعا من المجتمعات من حيازة ما يراه نافعا لشأنه إذ الأخلاق والمعنويات لا أصالة لها عندهم وإنما تعتبر على حسب ما تقدره غاية المجتمع وغرضه الحيوي وهو التمتع من الحياة.
وأنت إذا تتبعت الحوادث العامة بين المجتمعات سابقها ولاحقها وخاصة الحوادث العالمية الجارية في هذا العصر الأخير عثرت على شيء كثير من العهود الموثقة ونقوضها على ما وصفناه.
وأما الإسلام فلم يعد حياة الإنسان المادية حياة له حقيقية ، ولا التمتع من مزاياها سعادة له واقعية ، وإنما يرى حياته الحقيقية حياته الجامعة بين المادة والمعنى ، وسعادته الحقيقية اللازم إحرازها ما يسعده في دنياه وأخراه.
ويستوجب ذلك أن يبنى قوانين الحياة على الفطرة والخلقة دون ما يعده الإنسان صالحا لحال نفسه ، ويؤسس دعوته الحقة على اتباع الحق والاهتداء به دون اتباع الهوى