قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » أي ولو أنهم صبروا عن ندائك فلم ينادوك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لما فيه من حسن الأدب ورعاية التعظيم والتوقير لمقام الرسالة ، وكان ذلك مقربا لهم إلى مغفرة الله ورحمته لأنه غفور رحيم.
فقوله : « وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » كالناظر إلى ما ذكر من الصبر ويمكن أن يكون ناظرا إلى كون أكثرهم لا يعقلون والمعنى : أن ما صدر عنهم من الجهالة وسوء الأدب معفو عنه لأنه لم يكن عن تعقل وفهم منهم بل عن قصور في ذلك والله غفور رحيم.
قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا » إلخ ، الفاسق ـ كما قيل ـ الخارج عن الطاعة إلى المعصية ، والنبأ الخبر العظيم الشأن ، والتبين والاستبانة والإبانة ـ على ما في الصحاح ـ بمعنى واحد وهي تتعدى ولا تتعدى فإذا تعدت كانت بمعنى الإيضاح والإظهار يقال : تبينت الأمر واستبنته وأبنته أي أوضحته وأظهرته ، وإذا لزمت كانت بمعنى الاتضاح والظهور يقال : أبان الأمر واستبان وتبين أي اتضح وظهر.
ومعنى الآية : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر ذي شأن فتبينوا خبره بالبحث والفحص للوقوف على حقيقته حذر أن تصيبوا قوما بجهالة فتصيروا نادمين على ما فعلتم بهم.
وقد أمضى الله سبحانه في هذه الآية أصل العمل بالخبر وهو من الأصول العقلائية التي يبتني عليه أساس الحياة الاجتماعية الإنسانية ، وأمر بالتبين في خبر الفاسق وهو في معنى النهي عن العمل بخبره ، وحقيقته الكشف عن عدم اعتبار حجيته وهذا أيضا كالإمضاء لما بني عليه العقلاء من عدم حجية الخبر الذي لا يوثق بمن يخبر به وعدم ترتيب الأثر على خبره.
بيان ذلك : أن حياة الإنسان حياة علمية يبني فيها سلوكه طريق الحياة على ما يشاهده من الخير والشر والنافع والضار والرأي الذي يأخذ به فيه ، ولا يتيسر له ذلك إلا فيما هو بمرأى منه ومشهد ، وما غاب عنه مما تتعلق به حياته ومعاشه أكثر مما يحضره وأكثر فاضطر إلى تتميم ما عنده من العلم بما هو عند غيره من العلم الحاصل بالمشاهدة والنظر ، ولا طريق إليه إلا السمع وهو الخبر.