فقوله : « مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ » بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة ولا تناقض شريعتها بل تصدقها ولم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا والنسخ بيان انتهاء أمد الحكم وليس بإبطال ، ولذا جمع عليهالسلام بين تصديق التوراة ونسخ بعض أحكامها فيما حكاه الله تعالى من قوله : « وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ » آل عمران : ٥٠ ، ولم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله المحكي : « قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ » الزخرف : ٦٣.
وقوله : « وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » إشارة إلى الشطر الثاني من رسالته عليهالسلام وقد أشار إلى الشطر الأول بقوله : « مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ».
ومن المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر ويفرحه ولا يكون إلا بشيء من الخير يوافيه ويعود إليه ، والخير المترقب من بعثة النبي ودعوته هو انفتاح باب من الرحمة الإلهية على الناس فيه سعادة دنياهم وعقباهم من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما ، والبشرى بالنبي بعد النبي وبالدعوة الجديدة بعد حلول دعوة سابقة واستقرارها والدعوة الإلهية واحدة لا تبطل بمرور الدهور وتقضي الأزمنة واختلاف الأيام والليالي ـ إنما تتصور إذا كانت الدعوة الجديدة أرقى فيما تشتمل عليه من العقائد الحقة والشرائع المعدلة لأعمال المجتمع وأشمل لسعادة الإنسان في دنياه وعقباه.
وبهذا البيان يظهر أن معنى قوله عليهالسلام : « وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي » إلخ ، يفيد كون ما أتى به النبي أحمد صلىاللهعليهوآله أرقى وأكمل مما تضمنته التوراة وبعث به عيسى عليهالسلام وهو عليهالسلام متوسط رابط بين الدعوتين.
ويعود معنى كلامه : « إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً » إلخ ، إلى أني رسول من الله إليكم أدعو إلى شريعة التوراة ومنهاجها ـ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ـ وهي شريعة سيكملها الله ببعث نبي يأتي من بعدي اسمه أحمد.
وهو كذلك فإمعان التأمل في المعارف الإلهية التي يدعو إليها الإسلام يعطي أنها أدق مما في غيره من الشرائع السماوية السابقة وخاصة ما يندب إليه من التوحيد الذي هو أصل الأصول الذي يبتني عليه كل حكم ويعود إليه كل من المعارف الحقيقية وقد تقدم شطر من الكلام فيه في المباحث السابقة من الكتاب.
وكذا الشرائع والقوانين العملية التي لم تدع شيئا مما دق وجل من أعمال الإنسان