ثم إذا حكم وشرع وبلغه إياهم عن غنى منه ودعاهم إليه بوساطة رسله فلم يستجيبوا دعوته وتمردوا عن طاعته لم يكن ذلك تعجيزا منهم له تعالى لأنه العزيز لا يغلبه فيما يريده غالب.
ثم إن الذي حكم وشرعه من الدين بما أنه الملك القدوس العزيز ليس يذهب لغي لا أثر له لأنه حكيم على الإطلاق لا يفعل ما يفعل إلا لمصلحة ولا يريد منهم ما يريد إلا لنفع يعود إليهم وخير ينالونه فيستقيم به حالهم في دنياهم وأخراهم.
وبالجملة فتشريعه الدين وإنزاله الكتاب ببعث رسول يبلغهم ذلك بتلاوة آياته ، ويزكيهم ويعلمهم من منه تعالى وفضل كما قال : « هُوَ الَّذِي بَعَثَ » إلخ.
قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ » إلخ ، الأميون جمع أمي وهو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، والمراد بهم ـ كما قيل ـ العرب لقلة من كان منهم يقرأ ويكتب وقد كان الرسول صلىاللهعليهوآله منهم أي من جنسهم وهو غير كونه مرسلا إليهم فقد كان منهم وكان مرسلا إلى الناس كافة.
واحتمل أن يكون المراد بالأميين غير أهل الكتاب كما قال اليهود ـ على ما حكى الله عنهم ـ : « لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ » آل عمران : ٧٥.
وفيه أنه لا يناسب قوله في ذيل الآية : « يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ » إلخ ، فإنه صلىاللهعليهوآله لم يخص غير العرب وغير أهل الكتاب بشيء من الدعوة لم يلقه إليهم.
واحتمل أن يكون المراد بالأميين أهل مكة لكونهم يسمونها أم القرى.
وفيه أنه لا يناسب كون السورة مدنية لإيهامه كون ضمير « يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ » راجعا إلى المهاجرين ومن أسلم من أهل مكة بعد الفتح وأخلافهم وهو بعيد من مذاق القرآن.
ولا منافاة بين كونه صلىاللهعليهوآله من الأميين مبعوثا فيهم وبين كونه مبعوثا إليهم وإلى غيرهم وهو ظاهر ، وتلاوته عليهم آياته وتزكيته وتعليمه لهم الكتاب والحكمة لنزوله بلغتهم وهو أول مراحل دعوته ولذا لما استقرت الدعوة بعض الاستقرار أخذ صلىاللهعليهوآله يدعو اليهود والنصارى والمجوس وكاتب العظماء والملوك.
وكذا دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهالسلام على ما حكى الله تعالى : « رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ـ إلى أن قال ـ رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ » البقرة : ١٢٩ ، تشمل جميع آل