فلمّا حضر وقته وأحضر الطعام ، قال الساقي : أيّها الملك لا تأكل فإنّ الطعام مسموم ، فقال الخباز : لا تشرب أيّها الملك فإنّ الشراب مسموم ، فقال الملك للساقي : اشرب فشربه فلم يضرّه ، وقال للخباز : كل من طعامك ، فأبى ، فجرّب ذلك الطعام على دابّة من الدواب فأكلته فهلكت ، فأمر الملك بحبسهما.
وكان يوسف لمّا دخل السجن قال لأهله : إنّي أعبر الأحلام ، فقال أحد الفتيان لصاحبه : هلمّ فلنجرّب هذا العبد العبراني ، فتقرّبا له وسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا ، قال عبد الله بن مسعود : ما رأى صاحبا يوسف شيئا ، إنّما كانا تحالفا أن يجرّبا علمه.
روى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أرى عينيه في المنام ما لم تريا كلّف أن يعقد بين شعرتين (١) يوم القيامة ، ومن استمع لحديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنه الآنك» (٢) [١١٦].
وقال قوم : كانا رأيا على صحّة وحقيقة ، قال مجاهد : لمّا رأى الفتيان يوسف قالا له : والله لقد أحببناك حين رأيناك فقال لهما يوسف : أنشدكما الله أن لا تحباني ؛ فإنّه ما أحبّني أحد قط إلّا دخل عليّ من حبّه بلاء.
لقد أحبتني عمّتي فدخل عليّ في حبّها بلاء ، ثمّ أحبّني أبي فدخل عليّ بحبه بلاء ثمّ أحبتني زوجة الملك هذا ، فدخل عليّ بحبّها إيّاي بلاء ، فلا تحبّاني بارك الله فيكما ، قال : فأبيا إلّا حبّه وألفته حيث كان ، وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله ، وقد كانا رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف فقال له الساقي : أيّها العالم إنّي رأيت كأنّي غرست حبّة من عنب عليها ثلاث عناقيد من عنب فحبستها ، وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه.
وقال الخبّاز : إنّي رأيت كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة فإذا سباع الطير تنهش منه ، فذلك قوله تعالى : (قالَ أَحَدُهُما) يعني بنو (إِنِّي أَرانِي) أي رأيتني ، (أَعْصِرُ خَمْراً) يعني عنبا بلغة عمان ، ويدلّ عليه قراءة ابن مسعود أعصر عنبا.
قال الأصمعي : أخبرني المعتمر أنّه لقي أعرابيا معه عنب ، فقال : ما معك؟ قال : خمر ، ومنه يقال للخلّ العنبي خلّ خمرة ، وهذا على قرب الجوار ، قال القتيبي : وقد تكون هي الخمر بعينها كما يقال : عصرت زيتا وإنّما عصر زيتونا.
وقال الآخر : وهو مجلث : (إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أخبرنا تفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا.
__________________
(١) في كنز العمال : ١٥ / ٣٧٤ ، ح ٤١٤٤١ : شعيرتين.
(٢) سنن الدارمي : ٢ / ٢٩٨ ، كنز العمال : ٣ / ٦٦٢ ، ح ٨٣٩٧.