والوجه الثاني أن يكون (الَّذِينَ) في محل رفع على معنى يضل به الذين كفروا الناس المفسدين منهم ، وقرأ أهل الكوفة : (يُضَلُ) بضم الياء وفتح الضاد وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيدة لقوله (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) و (يُحِلُّونَهُ) يعني النسيء (عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا) ليوافقوا ، قال ابن عباس : ليشبهوا ، قال المؤرّخ : هو أنهم لم يحلّوا شهرا من الحرم إلا حرّموا مكانه شهرا من الحلال ، ولم يحرّموا شهرا من الحلال إلّا أحلوا مكانه شهرا من الحرم لئلّا تكون الحرم أكثر من أربعة أشهر ممّا حرم الله فيكون موافقا للعدد ، فذلك المراد.
(فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١))
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ) الآية فيها حثّ من الله سبحانه لأصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم على غزوة تبوك ، وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم ، وذلك في زمان عسرة من الناس وجدب من البلاد وشدة من الحر [حين] فأحرقت النخل وطابت الثمار وعظم على الناس غزوة الروم ، وأحبّوا الظلال والمقام في المسكن والمال ، فشقّ عليهم الخروج إلى القتال ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قلّ ما خرج في عزوة الّا كنّى عنها وورّى بغيرها إلا غزوة تبوك لبعد شقتها وكثرة العدو ليتأهب الناس وأمرهم بالجهاد ، وأخبرهم بالذي يريد ، فلمّا علم الله تثاقل الناس ، انزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ) أي شيء أمركم (إِذا قِيلَ لَكُمُ) إذا قال لكم رسول الله (انْفِرُوا) اخرجوا (فِي سَبِيلِ اللهِ) وأصل النفر مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج على ذلك ، فقالت نفر فلان إلى ثغر كذا ، ينفر نفرا ونفورا ، ومنه نفور الدابة ونفارها (اثَّاقَلْتُمْ) تباطأتم.
قال المبرّد : أخلدتم (إِلَى الْأَرْضِ) ومعناه : لزمتم أرضكم ومساكنكم ، وأصله تثاقلتم فأدغمت التاء في الثاء وأخرجت لها ألف يوصل إلى الكلام بها حين الابتداء بها ، كقوله (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها) (١) و (قالُوا : اطَّيَّرْنا) وأرجفت ، العلاء والكسائي.
__________________
(١) سورة الأعراف : ٣٨.