فلبثوا بذلك ما لبثوا ، ثمّ قدم دقيانوس الجبّار إلى المدينة فأمر العظماء فذبحوا للطواغيت ، ففزع من ذلك أهل الإيمان ، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، فأخبرهم أنّ الجبّار دقيانوس قد دخل المدينة ، وأنهم ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ليذبحوا للطواغيت. فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجودا يدعون الله عزوجل ويتضرّعون ويتعوّذون به من الفتنة.
ثمّ إنّ تمليخا قال لهم : ارفعوا رؤوسكم فاطعموا من رزق الله وتوكّلوا على بارئكم.
فرفعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا وخوفا على أنفسهم ، فطعموا منه وذلك مع غروب الشمس. ثمّ جلسوا يتحدّثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضا ، فبينا هم على ذلك إذ ضرب الله (عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ) و (كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) بباب الكهف ، فأصابه ما أصابهم ، وهم مؤمنون موقنون ، ونفقتهم عند رؤوسهم. فلما كان من الغد تفقّدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم ، فقال لبعضهم : لقد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا ، لقد كانوا ظنوني غضبا عليهم بجهلهم ما جهلوا من أمري ، ما كنت لأحمل عليهم في نفسي ولا لواحد منهم إن تابوا وعبدوا آلهتي! فقال له عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم ، وقد كنت أجّلت لهم أجلا ، فلو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ، ولكنّهم لم يتوبوا.
فلما قالوا له ذلك غضب غضبا شديدا ، ثمّ أرسل إلى آبائهم فسألهم عنهم ، فقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني. فقالوا له : أمّا نحن فلم نعصك ، فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثمّ انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى ينجلوس؟ فلما قالوا له ذلك خلّى سبيلهم ، وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية ، فألقى الله عزوجل في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم ، أراد الله عزوجل أن يكرمهم ويجعلهم آية لأمّة يستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم (أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (١).
فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم ، وقال : دعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشا وجوعا ، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم. وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، قد توفى الله أرواحهم وفاة النوم (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) ، بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم ، يتقلّبون (ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ).
ثمّ إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما ، اسم أحدهما بيدروس ، واسم الآخر روتاس ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص يجعلانه في تابوت من نحاس ، ثمّ يجعلان التابوت في البنيان ، وقالا : لعل الله
__________________
(١) إشارة إلى الآية : ٧٠ من سورة الحج.